|
حتى كتابة هذه السطور، كان العدو الإسرائيلي قد قرر الانسحاب من جنين المحتلة بعدما شن عدواناً أسفر عن ارتقاء 12 شهيداً ومقتل جندي صهيوني، وكان الأوسع منذ عدوان عام 2002 على الضفة الغربية المحتلة، التي عرفت حينها بعملية "السور الواقي".
وأبلت المقاومة الفلسطينية بلاء حسناً في التصدي للعدوان، على الرغم من الفارق الكبير في موازين القوة على الأرض؛ فالعدو استخدم أشكال الأسلحة الأكثر تطوراً، إلا أن تقدمه كان بطيئاً ومتعثراً وأقل إنجازاً، ولا سيما على صعيد استهداف خلايا المقاومة المسلحة التي يبدو أنها كانت مستعدة ومتيقظة لنياته، وأعدت خططاً دفاعية قللت حجم الخسائر في الأرواح.
كما أنّ قوات العدو خشيت الالتحام المباشر بالمقاومين كي تتجنب الخسائر البشرية، واعتمدت في عدوانها على سلاحي الجو والاستخبارات، إلى جانب القوات البرية المحمولة في الدبابات والناقلات المدرعة.
يتضح من سير المعركة على الأرض أن العدو استهدف بشكل مكثف قطاعات مدنية، كشبكتي الماء والكهرباء، وهدم عدداً من المنازل، بهدف التأثير في الحاضنة الشعبية للمقاومة في جنين، وإضعاف قدرة المقاومين على الكر والفر، وتقويض أسلوب حرب العصابات الذي تتبعه المقاومة بما يتناسب مع بيئتها في المخيم، ومواجهة قوات نظامية مؤللة وبغطاء جوي وقدرات نارية واستخبارية وتكنولوجية عالية.
ولجأ العدو إلى تدمير الطرقات وتجريفها عبر جرافات عسكرية مجنزرة من طراز "D9"، وتدمير المنازل المحاذية لها، بذريعة التخلص من العبوات الناسفة التي زرعتها المقاومة في إطار دفاعها عن المخيم من العدوان المتكرر عليه.
يبدو أن العدو اتخذ قرار شن عدوان واسع على جنين بعد تكرار عمليات المقاومة المسلحة الناجحة، ولا سيما عملية مستوطنة عيلي شمال رام الله قبل نحو أسبوعين، التي أسفرت عن مقتل 4 مستوطنين، إلا أنه يعتقد أنه استعد لها منذ عدة أشهر، وربما عام، كما كشفت مصادر العدو الإعلامية.
وكان سبب التأجيل المتكرر هو خشية "جيش" العدو من فقدان السيطرة على العملية، وتسببها بخسائر في قواته، وسقوط عدد كبير من الشهداء، على نحو قد يؤدي إلى تدحرجها إلى مواجهة أوسع، وتنفيذ عمليات انتقامية، وربما ردود عسكرية من قطاع غزة.
ولكن عملية عيلي، وضغوط المستوطنين المتطرفين، وتصريحات بن غفير الإرهابية، ومزايدات المعارضة، إلى جانب رغبة نتنياهو في استعادة جزء من شعبيته وإحباط جهود المعارضة في تصعيد الاحتجاجات على التعديلات القضائية بشكل نوعيّ، كلها عوامل دفعت العدو إلى اتخاذ قرار شن عدوان واسع على جنين.
وساهم تطور قدرات المقاومة في جنين كماً ونوعاً، لا سيما تصنيع العبوات الناسفة التي تمكَّنت من إعطاب عدد من الآليات وإصابة 8 جنود في داخلها أثناء اقتحامها المخيم قبل نحو أسبوعين، في حسم الخلافات داخل المؤسسة الأمنية من جهة (الاستخبارات و"الجيش" والشاباك)، وبينها وبين المستوى السياسي من جهة أخرى، وترجيح وجود حاجة عملياتية لشن عدوان واسع على جنين، بدلاً من الاستمرار في سياسة "جز العشب" وعملية "كاسر الأمواج"، خشية تحول جنين تدريجياً إلى نموذج شبيه بقطاع غزة، إلى جانب الرغبة في ترميم الردع المتأكل، والعمل على كي وعي جيل المقاتلين الجدد في المخيم، وردعهم عن المضي في مسار المقاومة المسلحة عن طريق جبي أثمان منهم في الأرواح والممتلكات.
كما أن العدو يعي حالة الضعف المتزايد للسلطة الفلسطينية، ويظن أن انتشار ظاهرة الخلايا المسلحة وتوسعها سيحول الضفة الغربية بعد غياب رئيس السلطة محمود عباس إلى فوضى عارمة بسبب الصراع على خلافته داخل البيت الفتحاوي، ما سيوسع هامش المواجهة مع العدو بعد فراغ موقع رئاسة السلطة، الأمر الذي سيدفعه إلى تنفيذ عمليات عدوانية واسعة على فترات متقطعة، على غرار العدوان على جنين، للعمل على إضعاف الخلايا المسلحة وقضم قدراتها على نحو يقلل خطرها بعد مرحلة غياب عباس.
بمجرد اتخاذه قرار العدوان الواسع على جنين، أدرك العدو أنه اعترف ضمنياً بإخفاق حملة "كاسر الأمواج" التي أطلقها قبل أكثر من عام لمواجهة تصاعد المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، وهو يدرك أيضاً أن تمكنه من قتل عدد من المقاومين لن ينهي حالة المقاومة، ولن يردع الشباب الجدد من الانضمام إلى صفوفها، وسيدفع آخرين إلى تنفيذ عمليات انتقام، على غرار عملية "تل أبيب" الفدائية بعد ساعات من العدوان.
إن أحد المآلات التي يخشاها العدو هو تمدد المقاومة وتوسعها إلى جنوب الضفة الغربية، بعدما تركزت في شمالها حتى الآن. وقد تعكس عملية "تل أبيب" التي نفذها الشهيد عبد الوهاب خلايلة من قرية السموع قضاء الخليل بداية لتحرك أوسع داخل الخليل أو انطلاقاً منها، الأمر الذي سيؤدي إلى انتشار حالة المقاومة في ربوع الضفة الغربية من شمالها إلى وسطها وجنوبها، ما سيجبر العدو على نشر مزيد من قواته والتركيز على جبهة الضفة الغربية، في الوقت الذي يرتفع مستوى عدم الاستقرار على جبهتي الشمال والجنوب وإيران.
إن خشية العدو من انعكاسات عدوانه على جنين على الساحات والجبهات الأخرى، وخشيته من وقوع خسائر في قواته، وتحسبه من وقوع عمليات انتقامية، إلى جانب إدراكه أن شرعية عدوانه الدولية تتراجع عكسياً مع طول مدة العدوان، دفعه إلى تقصير فترة عدوانه على جنين والتسريع في إنهائه ووقف عملياته.
* نقلا عن :الميادين نت
في الأربعاء 05 يوليو-تموز 2023 10:19:30 م