|
عبدالحفيظ حسن الخزان ,شاعر ,وعالم ,وأديب ,وتربوي ,وله اهتمامات متعددة , درس الفيزياء في العراق, فتركت القوانين الفيزيائية أثرا عليه في نظرته للأشياء وفي تعامله معها , وهو ينحدر من أسرة عريقة مشهورة بالعلم والأدب والقضاء , ولد في بلاد الشرفين وتحديدا في مدينة المحابشة , والمحابشة من هجر العلم وكان بها مدرسة علمية تخرج بها كبار الأدباء والشعراء من أمثال حسن الشرفي وعلي عبد الرحمن جحاف وغيرهم كثر من المشاهير في عصرنا .
بيئة المحابشة بيئة شاعرية لما تمتاز به من جمال في الطبيعة , ومن هواء عليل , وخضرة , واهتمام علمي وأدبي , ولها تأريخ أدبي وفني غير مدروس ولم ينشر نتحمل وزر إهماله ,وعدم الاهتمام به ,لكن مشاغل الحياة وعدم توفر الامكانات كانت عائقا ,فضلا عن غياب أخلاق العناية عند الموسرين من أبناء الشرفين .
والشاعر عبد الحفيظ الخزان ابن هذه البيئة الجميلة المليئة حبا ,وشعرا ,وجمالا, نشأ وترعرع في سهولها ,ووديانها ,وعلى سفوحها ,ونجادها ,فكان أصدق تعبير عنها ,وشكل امتدادا متجددا لمدارسها الإنشادية ,لذلك استغرق نفسه الى حد التماهي في قصائد الانشاد في الافراح والاتراح والمناسبات المختلفة , ففضلا عن كونه يتداخل مع دورة الحياة بقصائده فرحا وترحا لا تكاد تخلو مناسبة دينية دون يكون نصه المنشد حاضرا بقوة فيه .
وقد تفاجأت وأنا أقرأ كتابا لباحثة في الإنشاد الغناء الصنعاني الحضور المكثف لنصوص الشاعر عبد الحفيظ في الموثقة في الكتاب , ربما كان اشتغال الشاعر عبد الحفيظ بهذا المنحى أثرا حتى في البيئة الصنعانية التي جاهد في الوصول اليها حتى يسجل حضورا مكثفا له في تموجاتها الوجدانية .
***
الشاعر عبد الحفيظ من الشعراء الذين يملكون الموهبة الكبيرة لكنه فلسفيا لا يحب التعالي على المتلقي , ويبدو لي أنه يريد أن يخاطب الكل بلغة الكل دون اللجوء الى الأساليب الفنية التي تفصل خواص المتلقين عن عوامهم , فهو يحرص أن يتداخل مع الناس ولا يرغب بوجود حواجز فنية تمنع ذلك التواصل فهو في القصيدة كما هو في النشيد , ولذلك حين يكتب القصيدة يتخيلها على لسان المنشدين كما في قوله من نص "ثورتنا أخلاق" :
آمالك يا وطني شتى
والعزة أجمل آمالك
وبنصرك يا وطني الأحلى
سأصافح علياء جبالك
بعيالك ترقى يا وطني
يا وطني يا فخر عيالك
ورجالك إن عزموا حسموا
فالمجد يباهي برجالك
ثورتنا أخلاق عظمى
لا ثورة جيل متهالك
زلزلنا عرش طواغيت
ما علموا أسرار جمالك
باعوك لأجل مصالحهم
وأقتطعوا بالظلم ممالك
ما راعوا شعبا مهتضما
محروما من جود نوالك
ما عاش بأمن وسلام
أو نال من العدل مسالك
***
هذا كل النص كما ورد في ديوان "أوجاع الوطن المسافر "ويبدو لي أن له تكملة سقطت سهوا أثناء الطباعة أو الصف الكتروني , وهو دال على غنائية مفعمة , تبدو لنا من خلال الجمل الإيقاعية ذات التناسق والتناغم فالنص في غالب الاحيان يحمل لحنه بين جمله وتفاعيله , كما كان يفعل الفضول في الكثير من قصائده المغناة , ومن حيث الرؤية فهو يقترب من البسطاء وعوام الناس ليقول لهم أن الوطن أمل وعزة وكرامة وثورة خضراء تحمل احلام الناس الى عالم مفعم بالحياة , وفي السياق ومن طرف مقابل يقول في نص بعنوان " الكذوب المدعي " :
يا موطني متى تعي
مكر الكذوب المدعي
يغتال فيك أمة
بخنجر في أضلعي
الى الغبار ينتمي
بوجهه المبرقع
يخون في أنفاسه
يكيد عند المضجع
يغذوك من سمومه
في جود أم مرضع
يبيع أم حمير
حقدا على الهميسع
يعطيك وصف لبوة
لكن بطبع الضفدع
تتيه في بحاره
كالزوق المزعزع
كيف اختفت أوجاعه
برغم لهفة النعي
وقد أتاك غازيا
من الجهات الأربع
فاهزأ بكل كاذب
واطعن بأصل المدعي .
***
هذا الخطاب السهل الممتنع يحمل في مضمونه العام رسالة تحريضية مفادها الحفاظ على حياض الوطن من الغزاة ومن أدعياء الوطنية الذين يتعاون مع هولاكو سرا حتى يسلموه حياض الوطن فيعيث فيه فسادا جهرا, الخطاب مباشر وقريب من العوام , وكاد أن يستنهض ثقافتهم في قوله :
فاهزأ بكل كاذب
واطعن بأصل المدعي
فثقافة القبائل تقوم على مبدأ تراه معيارا في قياس الرجال الرجال من سواهم وهذا المبدأ يقول : إذا خفيت الأصول دلت عليها الأفعال " وقد حاول الشاعر أن يتناص مع المعنى حتى يستثير نخوة القبائل في الدفاع عن الوطن بلغة بسيطة شفافة تقرع مسامع الكل دون صناعة فنية معقدة , فقد اعتمد انسياب المشاعر وتدفقها كي يرسل رسائله ,وهو يثق بقدرة هذه اللغة البسيطة على ملامسة شغاف النخوة والمروءة في الذات المخاطبة ,فالشاعر يغالي في محبة وطنه لأنها آماله وانشغالاته كما في نشيده الذي أصبح يلامس قلوب الناس الذي يقول :
بلادي كل آمالي
وأحلى ما احتوى بالي
تمازج نبض أوردتي
وتكتب لحن موالي
يماني ولي يمن
عشقت مقامه العالي
أبادل مجدها لغة
تفيض بصدق أقوالي
هنا أحفاد " ذو يزن "
تضوي هصره الخالي
بني وطني أناشدكم
بكل مقدس غالي
تعالوا في مقاصدكم
وخلوا نزعة القالي
إلهي قال "طيبة "
فكونوا خيره التالي
بلدي في المدى رئتي
وعزم حلّ أوصالي
بلادي منحة المولى
ستبقى كل آمالي
***
هذا التماهي في حب الأرض يحمل مضمونه روحا من المحبة والسلام والعزة والكرامة , ويبدو لي أن الشاعر عبد الحفيظ الخزان له فلسفة خاصة بحكم النشأة والبيئة العلمية التي ترعرع فيها والتي ترى في الشعر رساله اجتماعية وفي الشاعر مصلحا اجتماعيا لذلك سلك طريق المصلح الاجتماعي , فحمل هم استبدال المفردة المبتذلة في النشيد على مستوياته المتعددة بغيرها تكون أقرب الى تنمية الذائقة الجمالية وأقرب الى روح الدين والقيم والمثل , لذلك نراه متداخلا الى حد طغيان نصه في مناسبات دورة الحياة مثل الموالد والولاد والزواج وفي المناسبات الدينية العامة مثل المولد النبوي حيث أضحى نصه " الشوق في أضلعي توقد " من لوازم الاحتفال بالمولد الى درجة نسبة النص الى التراث لشيوعه وكثرة تداوله , فالكثير ينشده دون أن يعرف قائله ,وغيره كثر مما أصبح متداولا وجاريا على السنة الناس , فالعالم والفقيه لم يغادر عبدالحفيظ الخزان وقد استخدم الشعر كوسيلة ليس أكثر في عملية الاصلاح التي ينشدها الفقيه والعالم والمؤرخ في عقله الباطن , ولذلك نجد صفة العالم تسبق اسمه في السنة الناس متجاوزة مفردة شاعر ولعل هذا النص الذي القاه في الجامع الكبير تشجيعا على العلم خير دليل الى ما نذهب اليه من توصيف يقول :
العلمُ أجملُ بالإنسانِ إنْ طَلَبَهْ
والفَوزُ بالعلمِ في دُنياهُ والغَلَبَهْ
وإِنْ تَوانَى عنِ التحصيلِ وا أَسَفِي
لا يُدركُ الُشَّرَفَ الأَوفَى، ولا سَبَبَهْ
والمُسلمُ الحقُّ بالقُرآنِ في رُتَبٍ
عُليا، إِذا اقتَحَمَ الأَسبابَ والعَقَبَهْ
ومَن تَكاسلَ عن آياتِ خَالِقِهِ
رَأى تَكاسُلَهُ ذُلًّا ومُنقَلَبَهْ
وا خَجلَتاهُ إِذا أَيقظتُ مَن رَقَدُوا
وعُدتُ أَرتَعُ مِثلَ الدِّيكِ في جَلَبَهْ
*
إِسلامُنا اليومَ والأَوطانُ في خَطَرٍ
ونَحنُ في مَوجةِ الأَهوالِ كَالخَشَبَهْ
مِن جَهلِنا عَبَرَ الطَّاغوتُ مُنتَفِخًا
حتَّى غَدا الدِّينُ يَستَجدِي الوَرى نَسَبَهْ
العَالَمُ اليومَ في أَهوائهِ مِلَلٌ
يَقتادُها كُلُّ أهلِ العُهرِ والكَذَبَهْ
ورِدَّةٌ مِن ذَوي الإِسلامِ واضِحَةٌ
تَصَهيَنَت مَكَّةٌ، والقُدسُ مُستَلَبَهْ
يُفتِيهمُ القَسُّ، والحَاخامُ يُرشِدُهُم
ولِلغَيورينَ مِنهُم مَذهَبَ النَّصَبَهْ
وأَرضُ (عمَّارَ) تحتَ القَصفِ، وا عَجَبِي
وأُمُّهُ مِن حِصارِ الكُفرِ مُكتَئِبَهْ
لكنَّ (عمَّارَ) لا يَخشى مَكائِدَهُم
هَيهاتَ، قَد نَكَصُوا لمَّا رَأوا غَضَبَهْ
*
فَاستَنهِضُوا هِمَمَ القُرآنِ في فِطَن
في أُمَّةٍ عَن هُداهُ الخَصبِ مُحتَجَبَهْ
إِذ بَدَّلَت نَهجَها المَعصومَ، وانقَلَبَت
إِلى البُخاريِّ، أو ما صحَّفَ الكَتَبَهْ
يا وَيلَها اعتَنَقَت دِينَ المُلوكِ هَوًى
حتَّى عَلَتها قُرودُ المَسخِ والدِّبَبَهْ
واستَبدَلَت نِعمةَ البَاري، فأَورَثَها
طَبعَ الجَمادِ، فلا عِلمٌ ولا غَلَبَهْ
وقيَّضَ اللهُ من أَنصارِ مِلَّتِهِ
هذي البِلادَ، فصارَت فيهِ مُحتَسِبَهْ
*
حَازُوا العُلومَ معَ الرشَّاشِ، وانطَلَقُوا
ما بَينَهُم وبَني هذا الزَّمانِ شَبَهْ
يُؤدِّبونَ جُيوشَ الغَزوِ في ثِقَةٍ
لا يَبتغُونَ الجَزا أو يَطلُبونَ هِبَهْ
جَاسُوا خِلالَ جُيوشِ الغزوِ فارتَبَكَت
تلكَ الطَّوائرُ، والأَرتالُ مُضطَرِبَهْ
فكَبَّروا وارتَقَوا في النَّصرِ إِذ ثَبَتُوا
وكُلُّ غازٍ رَأى في نَصرهِ هَرَبَهْ
لأنَّهُم فِتيةٌ في عَهدِهم صَدَقُوا
مالُوا على الخِلفِ حتَّى استأصلُوا ذَنَبَهْ
**
العلمُ يا سادَتي سِرُّ الإِلهِ لَنَا
طُوبى لِمَن حازَ بعضَ العلمِ واكتَسَبَهْ
والعلمُ بالعَمَلِ المَبرورِ مُرتَبِطٌ
لا يَشعرُ المرءُ إنْ لم يَمتلِكْ عَصَبَهْ
والعلمُ كالغيثِ في أرضٍ زَكَت وَرَبَت
وأَنبَتَت ثَمَرَ الزَّيتونَ والعِنَبَهْ
والأَنفُسُ السوءُ لا تَرقَى بِما عَلِمَت
ولا القُلوبُ التي في أَصلِها خَرِبَهْ
ولا الحَسودُ الذي في قَلبهِ مَرَضٌ
ولا الذي لَحمُهُ يَنمُو بِما انتَهَبَهْ
****
إنِّي أُشيدُ بهذا الصَّرحِ مُبتَهِجًا
مُقبِّلًا هامَ أَهلِ العلمِ والطَّلَبَهْ
والعلمُ آثارُهُ أَخلاقُ صاحِبِهِ
ما أَدركَ العلمَ مَن لَم يَلتَزِمْ أَدَبَهْ
وأجملُ الناسِ مَن لا يَمتَطيهِ هَوًى
مُباهِيًا سِربَهُ يَقضِي بِهِ أَرَبَهْ
شُكرًا لِجارَتِنَا، لَولا وَساطَتُهَا
ما عَربدَ القُصُّفُ في النَّهدَينِ والحَصَبَهْ
ولا فَقَدنا أُلوفًا مِن أَحبَّتِنَا
ولا اعتَلى اليَمَنَ المَيمونَ مَن نَكَبَهْ
هذي (تَنومَةُ) تَشكُو مِن وَساطَتِهَا
وأَرضُها بِدَمِ الحُجَّاجِ مُختَضِبَهْ
يا دولةً ما رَعَت مِيثاقَ خَالِقِهَا
وإنَّما دِينُها المِنشارُ في الرَّقَبَهْ
لا تَأمَنِي مَكرَ مَن إِنْ شاءَ أَركَسَكُم
وسَامَكُم ما جَزا الفِرعونَ ما اكتَسَبَهْ
وحِكمةُ اللهِ عَدلٌ في خَليقَتِهِ
وهو الرَّؤوفُ بِمَن والاهُ وارتَهَبَهْ
صَيَّرتمُ بَيتَهُ لَهوًا وتَصدِيَةً
يا دَولةً بِقُشورِ الدينِ مُنتَقِبَهْ
غدًا يُريكُم عُجابًا مِن مَشيئَتِهِ
يا دولةً تُشبهُ الأَبقارَ مُحتَلَبَهْ
** *
عالم السيد العلامة والأديب عبد الحفيظ الخزان عالم مشع يختط نسقا خاصا ويتبع رؤية فلسفية لها غايتها وأهدافها ولا يرى الشعر إلا وسيلة من وسائل بلوغ الأهداف الكبرى التي تنحصر عنده في الحب والخير والحق والعدل والكرامة وتنمية القيم والاخلاق والنبل وصناعة مجتمع مثالي , وقد حاولنا الاشارة الى ذلك العالم حسب مقتضيات الحال في هذا العالم الأزرق أما الإحاطة فتحتاج جهدا ووقتا ,ولا يتسع لها المجال هنا .
#إتحاد_الشعراء_والمنشدين
في السبت 22 يوليو-تموز 2023 10:32:26 م