|
تتصدر الولايات المتحدة فريق الرافضين لصرف رواتب اليمنيين حيث تستخدم التجويع ضمن تكتيكات الحرب لإخضاع صنعاء.
في تصريح لجريدة الاتحاد الإماراتية أظهر المبعوث الأمريكي الخاص باليمن ثيموتي ليندركينغ معارضة بلاده الصريحة للمفاوضات التي كانت انطلقت بين صنعاء والرياض حول الترتيبات الإنسانية لمسار السلام والتي كانت تدور حول نقطة صرف رواتب الموظفين من عائدات النفط والغاز.الثورة /رصد وتحليل زكريا الشرعبي
وقال ليندركينغ إن بعض القضايا، التي تتم مناقشتها، مثل كيفية ضمان حصول جميع موظفي القطاع العام على رواتبهم، معقدة، زاعما أن مناقشة صرف الرواتب يمكن أن يكون لها آثار على مستقبل اليمن.
لا يعرف اليمنيون الذين انقطعت رواتبهم منذ أواخر العام 2016م ويعيشون أسوأ مأساة إنسانية في العالم ، كيف يمكن أن يؤثر دفع المرتبات على مستقبل اليمن، ولا يجدون تفسيرا لذلك سوى أن واشنطن تستخدم التجويع كوسيلة لإخضاعهم.
ماذا تريد واشنطن؟
تكشف وثائق ويكليكس أن حرب علي عبدالله صالح على أنصار الله في صعدة كانت من أجل المصالح الأمريكية، فتشير إحدى الوثائق إلى مضمون نقاش دار في أبريل 2005م بين علي عبدالله صالح والسفير “توماس كراجيسكي” طلب فيه صالح زيادة الدعم في الحرب الدموية ضد صعدة، قال صالح: “إذا توقف الحوثيون عن ترديد “الموت لأمريكا والموت لإسرائيل”، كما كرر التأكيد للسفير أن المعركة أمريكية: ”نحن نحارب في معركتكم، إنهم معادون للولايات المتحدة، ومعادون لإسرائيل، ومؤيدون لإيران بينما نحن أصدقاؤكم”.
وتتضمن وثيقة أخرى رسالة من علي عبدالله صالح إلى بوش قال فيها: لا مشكلة لليمن مع الحوثيين إلا في عدائهم للولايات المتحدة الأمريكية ومساعيهم للإضرار بالمصالح الأمريكية والعلاقات اليمنية الأمريكية.(1)
ومن خلال الوثيقتين يتضح أن واشنطن تنظر إلى مشروع أنصار الله كخطر، وإذا كانت لم تقبل بهذا المشروع وهم لا يزالون مجموعة في ضواحي صعدة، فكيف ستقبل بهم بعد ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر التي أسقطت الوصاية.
ويعترف وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مذكراته التي صدرت مطلع العام الجاري أن أولى مهام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كانت مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في اجتثاث ما زعم أنه النفوذ الإيراني في اليمن(2)، ويؤكد عدد من أعضاء الكونجرس مثل “رو خانا وراند بول ، وكريس مورفي، وتيد ليو، وبيرني ساندرز” أن الولايات المتحدة الأمريكية شريك لا يمكن للحرب أن تستمر بدونه، فهي من تحدد ماذا وأين ستقصف طائرات التحالف وهي من جعلت الحصار ممكنا، كما أنها من زودت التحالف بالأسلحة والدعم اللوجيستي وأدار ضباطها العمليات العسكرية من غرفة للعمليات في الرياض.
لقد كانت الحرب على اليمن بهدف إسقاط صنعاء وإيجاد حكومة تعمل مع المصالح الأمريكية كما عبر بذلك صراحة السفير الأمريكي جيرالد فيرستاين في تصريح لموقع ذا ميديا لاين بالقول: إن الحرب لا يمكن أن تنتهي قبل أن يتحقق هذا الهدف(4).
وفشلت الولايات المتحدة في تحقيق هدفها عسكريا، فاتجهت إلى اتخاذ الخنق الاقتصادي تكتيكا موازيا للآلة العسكرية، بهدف إسقاط صنعاء من الداخل، فبينما يعيش 80 % من سكان اليمن في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ لا تمتلك هذه المناطق الموارد التي تكفي لتحقيق الخدمات وتوفير صرف رواتب الموظفين، وقد اعتمدت واشنطن على خيار التضييق الاقتصادي بالتزامن مع إثارة الشارع عبر الأدوات الدعائية وما يعرف بالطابور الخامس وصولا إلى إسقاط صنعاء شعبيا.
ودفعت الولايات المتحدة إلى فرض إجراءات اقتصادية عقابية قاسية، ترقى بحسب التوصيف الدولي إلى جرائم حرب، ولم يكن التنفيذ بواسطة السعودية والإمارات فقط، ولكن كما يؤكد السيناتور “راند بول”: أمريكا هي من جعلت الحصار ممكنا، في حين لا يخفى دورها في تحديد أهداف الغارات الجوية والتي استهدفت المنشآت الاقتصادية ومعامل إنتاج الغذاء والبنية التحتية بشكل متعمد، من أجل الوصول بالناس إلى المجاعة.
ولاحظت الباحثة البريطانية مارثا موندي في دراسة أنه منذ (أغسطس) 2015م، كان هناك تحول من الأهداف العسكرية والحكومية إلى المدنية والاقتصادية، بما في ذلك البنية التحتية للمياه والنقل، وإنتاج الأغذية وتوزيعها، الطرق والنقل والمدارس والمعالم الثقافية والعيادات والمستشفيات والمنازل والحقول والقطعان.(5)
ومع ذلك، فإن الدمار الذي لحق بالحياة في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة صنعاء لم ينتج عنه الاستسلام المحدد في قرار مجلس الأمن رقم 2216 حيث طُلب من صنعاء وحدها تسليم الأسلحة قبل المفاوضات السياسية.
وتشير موندي إلى أنه في خريف عام 2016م تم التدشين لمرحلة أخرى في الحرب: الحرب الاقتصادية وعزل البلد، حيث تم إغلاق مطار صنعاء أمام جميع الرحلات الجوية التجارية كما فُرض حصار على ميناء الحديدة، والأهم من ذلك، تم نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن وحرمان الموظفين من رواتبهم.
وكما هو معروف في سياسة “العصا والجزرة” لدى الأمريكيين فإن تدشين هذه المرحلة جاء بالتزامن مع إعلان وزير الخارجية الأمريكية مبادرة تقضي بانسحاب القوات المسلحة اليمنية أو من وصفهم بالحوثيين من عدد من المحافظات بينها محافظة الحديدة التي يعد ميناءها الشريان الوحيد لإمداد صنعاء بالغذاء والدواء تحت سيطرة قوة ثالثة، تشرف عليها الرباعية الدولية، مقابل أن تكون لهم حصة في حكومة وحدة وطنية مستقبلا، فقابلت صنعاء هذه المبادرة بالرفض، وقال حينها قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي مقولته الشهيرة: ” لينتظروا المستحيل والله؛ لأَن نتحولَ إلى ذرات تُبعثَرُ في الهواء أشرف لدينا وأحب إلينا من أن نستسلم لكل أولئك المجرمين”
وقال رئيس الوفد الوطني للمشاورات السياسية محمد عبدالسلام إن السفير الأمريكي ماثيو تولر هدد بشكل صريح بالقول: “أمامكم الآن صفقة إما أن توقّعوها وإما الحصار الاقتصادي وسننقل البنك وسنمنع الإيرادات وسنغلق مطار صنعاء فقلنا له اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”.(6)
وبحسب مجلة ذا انترسبت الأمريكية ” قالت مصادر متعددة في واشنطن أطلعت على المفاوضات إن رواية عبدالسلام تتفق بالفعل مع موقف تولر بأن على من اسماهم الحوثيين قبول الاتفاقية كما هي وإلا سيواجه اليمنيون ظروفًا إنسانية تزداد سوءًا”.(7)
ولم يكن موقف تولر خفيا في نقل البنك، وقد أشارت المجلة إلى دعوته لهذه العملية، وأكد عبدربه منصور هادي في حوار مع صحيفة القدس العربي في سبتمبر 2017م ”أن الأمريكيين كانوا يريدون نقل البنك إلى عُمان” ثم تم الاتفاق على نقله إلى عدن.(8)
وأدت خطوة نقل البنك إلى كارثة اقتصادية ، ومجاعة حقيقية ومثلت إلى جانب الحصار ذروة الاستهداف الاقتصادي من أجل الإرغام على الخضوع، ما تسبب بفقدان ما يقارب مليون موظف حكومي لرواتبهم ،وانهيار متسارع للاقتصاد وارتفاع سعر العملة، ودفع بالملايين إلى براثن الفقر وما تحت خط الفقر. (9)
وقال أليكس دي وال، مؤلف كتاب “الجوع الجماعي” الذي يحلل المجاعات التي صنعها الإنسان مؤخرًا في حديث لنيويورك تايمز: “يعتقد الناس أن المجاعة هي مجرد نقص في الغذاء”، “لكن في اليمن يتعلق الأمر بحرب على الاقتصاد.”(10)، فيما تنقل مارثا موندي أن دبلوماسياً سعودياً كبيراً قال عندما تم سؤاله حول التهديد بالمجاعة: “بمجرد أن نسيطر عليهم ، سنطعمهم”.(11)
أرادت الولايات المتحدة من خلال نقل البنك وقطع رواتب الموظفين وضع صنعاء أمام ضغط المواطنين الذين يعتمدون على الراتب كمصدر دخل وحيد، وما إن تم نقل البنك حتى دفعت الولايات المتحدة بحملات دعائية تبنى حليفها السابق علي عبدالله صالح القسط الأوفر منها، فرفعت شعارات مثل “أين الراتب يا حوثي” واتهامات لصنعاء بالفساد ودعوات للسلام والتسليم بمطالب الأمريكيين، بل وصل الاحتقان الداخلي ذروته في صنعاء في أغسطس 2017م حيث دعا صالح إلى تظاهرات في 24 أغسطس كان الهدف منها أن يقود تحركاً شعبياً بغطاء الخدمات والمرتبات ضد “أنصار الله”، ثم لما فشل هذا التحرك اتجه صالح في ديسمبر من ذات العام لتفجير الأوضاع عسكريا وكان من بين ما تبناه في خطابه رواتب الموظفين والخدمات وغير ذلك مما أرادته الولايات المتحدة، قبل أن ينتهي الأمر بمقتله، مع التفاف شعبي حول “أنصار الله” الذين يتصدرون المواجهة مع التحالف.
ووفقا لما تكشفه مجلة ذا انترسبت “طوال عام 2016م، فكرت إدارة أوباما في فكرة محاولة عزل الحوثيين من خلال قلب صالح ضدهم، ظن البعض أنه إذا تم إقناع صالح بالتبديل والتحالف مع المملكة العربية السعودية ، فسيؤدي ذلك إلى إحداث شرخ في تحالف العدو وربما إنهاء الحرب، حتى أن إيريك بيلوفسكي الذي كان يشغل حيها منصب كبير المدراء لشؤون شمال أفريقيا واليمن في “مجلس الأمن القومي” لإدارة أوباما التقى سرا بأقارب صالح لمناقشة الشروط، ورغم أن مطلب صالح بالعودة إلى الرئاسة لم يرق لواشنطن إلا أن ماثيو تولر أخبر وزارة الخارجية قبل خلاف صالح مع أنصار الله “أنه يعتقد أن الانقسام بين صالح والحوثيين أمر محتمل وفرصة يمكن للولايات المتحدة أن تستغلها. واقترح على وزارة الخارجية إعداد كتاب أبيض حول كيفية استغلال التوترات”..
السيطرة على الحديدة وفرض تقسيم عسكري
بالتزامن مع تحرك صالح كان هناك تحرك عسكري نحو محافظة الحديدة لفرض مبادرة كيري بالقوة على الأقل فيما يتعلق بالمحافظة واستكمال الاستهداف الاقتصادي من خلال فرض واقع عسكري، تحملت الولايات المتحدة الجزء الأكبر من هذه الحرب التي كان السعوديون والإماراتيون يتخوفون من خوض الحرب فيها بمفردهم.
ولم يتمكن تحالف العدوان من السيطرة على الحديدة بالرغم من الخسائر البشرية الكبيرة التي بذلها للوصول إلى تخوم المدينة بهدف فرض الاستسلام على القوات المسلحة اليمنية إلا أنه فشل في ذلك، وأعلنت الأمم المتحدة مفاوضات في السويد حول تهدئة في المحافظة ذات طابع إنساني، لكن عندما تم توقيع اتفاقية بهذا الشأن كانت هناك محاولات لفرض تفسير عسكري لما تم الاتفاق عليه مثل المطالبة بخروج القوات اليمنية من مدينة الحديدة وتسليمها هي والميناء لإدارة محلية بحسب الوضع الذي كان قائما في 2014م ويكون ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة.
ولم تقبل صنعاء هذا التفسير وأكدت أن أي خطوات عسكرية يجب أن تكون ضمن اتفاق سياسي يشمل اليمن كله، لكن الولايات المتحدة أرادت تحييد الحديدة، ورسم خطوط تقسيم عسكرية تبقي صنعاء معزولة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، أي إعادة فرض الأقاليم التي تم رفضها في 2014م كواقع عسكري.
وفي 27 أكتوبر 2018م أعلن وزير الدفاع الأمريكي جميس ماتيس، من مؤتمر المنامة، عن تسوية يجري إعدادها بإشراف أمريكي لوقف الحرب في اليمن، وترتكز على تقسيم البلاد إلى مناطق حكم ذاتيّ، وأشار خلال مؤتمر “البحرين للأمن” إلى أنّ التسوية المزمع إعدادها “تعطي المناطق التقليديّة لسكّانها الأصليّين، لكي يكون الجميع في مناطقهم”، وقال: “إنّ الحوثيين سيجدون فرصتهم في الحكم الذاتي”.(12)
لا يعني هذا أن واشنطن ستقبل ببقاء “أنصار الله” حاكمين في صنعاء فقد شاركت في الحرب عليهم وكانوا لايزالون في مران صعدة، ولكن لأن الحكم الذاتي لمناطق يسكنها غالبية السكان ولا تتواجد فيها الموارد وفي ظل توقف الحرب كما تسوق خطة ماتيس لن تكون هناك قضية لصنعاء تقاتل من أجلها كما لن تكون لديها خدمات تقدمها للمواطنين.
فشلت الولايات المتحدة في تمرير خطة ماتيس كما فشلت في فرض مبادرة كيري فعززت الحصار بشكل واسع، واحتجز التحالف السفن النفطية عرض البحر رغم تفتيشها أمميا، ومع ذلك لم تتمكن من إثارة الحاضنة الشعبية ضد صنعاء، بل كان الحصار واستمرار الحرب دافعا إضافيا لاصطفاف المواطنين ضد التحالف، حينها أعادت واشنطن تقييم الموقف عن كثب، وأرسلت إلى صنعاء روبرت مالي الذي عمل قائدا لشؤون الشرق الأوسط في إدارة أوباما، وهو حاليا مبعوث إدارة بايدن الخاص لإيران.
وصل مالي إلى صنعاء في العام 2019م بصفة المدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية وما كان لصنعاء أن تسمح له بالدخول بأي صفة رسمية، وقد خلص في تقييمه المنشور في مقال على صحيفة نيويورك تايمز إلى نقاط مهمة ارتكزت عليها سياسة الولايات المتحدة لاحقا.
وقال مالي إن “سكان صنعاء مذهولون وغاضبون مما يرون أنه الاهتمام الدولي غير المتكافئ الذي حظي به كل هجوم حوثي بصاروخ أو طائرة بدون طيار على المملكة العربية السعودية، مقارنةً بقصف التحالف الذي تقوده السعودية المنتظم والمدمّر الذي يتعرض له اليمنيون منذ مارس 2015م، منوها بأن هذا الموقف الغاضب ضد السعودية انعكس حتى على قادة حزب المؤتمر الحليف التقليدي للسعوديين، كما أن الناس في الجولات يتحدثون عن قصف السعودية لكل شيء حتى المقابر ويقولون: “حتى موتانا أصبحوا غير آمنين”.
وبحسب مالي: تعرف قيادة الحوثيين كل هذا – العداء الشعبي تجاه التحالف الذي تقوده السعودية؛ السيطرة الرائعة التي حققتها الحركة – وتجد مبررات أخرى للثقة بالنفس، يشعرون أن الوقت في صالحهم. على الرغم من الفوارق العسكرية الهائلة، فقد وقفوا في وجه تحالف من الدول الغنية القوية التي يدعمها ويسلحها الغرب”.. ”من المرجح أن يكون الحوثيون أقوى، والمعارضة أكثر تفككًا”.
ويؤكد المسؤول الأمريكي أن المملكة العربية السعودية لديها الكثير لتخسره حتى تخاطر به، واليمنيون لديهم القليل ليخسروه . (13)
تهديد أمريكي مباشر: لن نسمح بدخول مارب
حققت القوات المسلحة اليمنية انجازات ميدانية استراتيجية بشكل متسارع منذ أواخر العام 2019م، فاستعادت مديرية نهم شرقي العاصمة، ثم محافظة الجوف بالكامل، وتقدمت إلى محافظة مارب النفطية، ما أثار قلق واستنفار واشنطن ودفع بها نحو التهديدات المباشرة بشكل غير مسبوق، فصرح المبعوث الأمريكي أن بلاده لن تسمح للحوثيين بدخول مارب، وأعلنت الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على قيادات عسكرية بمزاعم قيادتهم للمعركة، (14)كما تم فرض عقوبات على شركات صرافة يمنية بذريعة دعمها لأنصار الله، بل تم تشديد الحصار بشكل كلي واحتجزت بعض السفن النفطية لأكثر من عام، بالتوازي مع تشديد القيود على الوقود الذي يصل إلى مناطق صنعاء برا من المناطق الخاضعة لسيطرة التحالف، ثم طرحت واشنطن مبادرة تعرض فيها التخفيف البسيط والمشروط من الحصار مقابل وقف إطلاق النار في مارب ووقف الهجمات على التحالف، وهو ما اعتبرته صنعاء مقايضة غير عادلة، حيث تريد واشنطن أن تحصل بالملف الإنساني على ما لم تحصل عليه عسكريا.. حينها هدد ليندركينغ بإغلاق الموانئ والمطارات بشكل تام قائلا في لقاء مع قناة الجزيرة إنه بدون الموافقة على المبادرة لن يجد اليمنيون الموانئ للحصول على الغذاء والدواء.(15)
بل تشير المعلومات إلى مشاركة أمريكية مباشرة في أعمال القصف لمنع تقدم قوات صنعاء، وهنا نجد تقييما مهما للوضع حينها وتوصيات بخطوات لاحقة من قبل مسؤولين وخبراء أمريكيين، ففي 2021م كتب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط (2019-2021م) ديفيد شينكر أن “الحوثيين على وشك السيطرة على مأرب وهو ما يشكل انتصارا باهظ الثمن على واشنطن”
واعتبر شينكر في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي أن انتصار صنعاء في مارب يمثل انتصاراً في المعركة كلها وهو ما يمثل للرياض وواشنطن أسوأ سيناريو، محذرا من سقوط اليمن في يد أعداء أمريكا كما سقطت افغانستان في يد طالبان.
ونصح شينكر واشنطن ببذل جهود مستمرة وإضافية للحظر البحري بالإضافة إلى إنفاذ الحظر على الحركة الجوية بمزاعم منع” تهريب المعدات العسكرية الإيرانية المتطورة.”،وهي المزاعم التي يتم تبرير الحصار بها.
وقال شينكر إن انتصار صنعاء ليس قلقا للسعودية ولكن يمثل حتى قلقا لإسرائيل، داعيا إدارة بايدن إلى العمل لمنع هذا الانتصار إما من خلال العمل مع السعوديين لتسليح وتنظيم حكومة المرتزقة وحلفائها المحليين أو من خلال إصدار أوامر للجيش الأمريكي بالتدخل المباشر، وإذا كان هذا غير ممكن بحسب شينكر فيجب أن “تتحد حكومة هادي مع الفصائل اليمنية المعارضة للحوثيين لشن هجوم مضاد، وسيبدأ السعوديون بقوة في تسليح اليمنيين في مارب لمنحهم فرصة للفوز، وإلا ستنعكس الثروات بشكل كبير”(16)
ومثلما كانت توصيات شينكر، كانت هناك توصيات مماثلة قدمها مايكل نايتس الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي زار السعودية عدة مرات لتقييم أسباب الهزائم التي تعرضت لها لاسيما في الحدود.(17)
ويقول نايتس إن سيطرة القوات المسلحة اليمنية على مارب “مركز الطاقة في اليمن” يعني انتصارها فعليا في الحرب في اليمن، وحتى بدون مارب فإن الفوز أو التعادل من شأنه أن يجعل الحوثيين “حزب الله الجنوبي” الجديد على البحر الأحمر – مما يعكس موقع حزب الله اللبناني على البحر الأبيض المتوسط .
وخلص تقييم نايتس إلى أن ما وصفه “الصراع” في اليمن يتجاوز الحدود الجغرافية وأطره المطروحة في المفاوضات، فهو صراع يرتبط بنوايا أنصار الله المستقبلية ومشروعهم.
وقال نايتس: يجب على واشنطن إجراء مراجعة محايدة لسياستها تجاه الحوثيين، وتقييم نواياهم المستقبلية ليس تجاه العناصر الأمريكية والمنشآت الأمريكية في المنطقة فحسب، بل أيضاً تجاه إسرائيل والشحن الدولي والسعودية وإيران و«حزب الله»، وإذا خلصت مثل هذه المراجعة إلى أن الحوثيين سيكونون على الأرجح خصماً للولايات المتحدة في المستقبل بغض النظر عن كيفية انتهاء الصراع في اليمن، فيجب على المسؤولين البدء بالتفكير في استراتيجية احتواء الآن وليس لاحقاً، وبالنظر إلى تعاظم ترسانة الحوثيين البعيدة المدى والتزامهم بشعارهم الرسمي “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، يبدو مثل هذا التخطيط للطوارئ حكيماً بالفعل.
وقدم نايتس عددا من التوصيات من بينها: ”شد الخناق على القوات الحوثية الضاربة” وهو تعبير يقصد به تشديد الحصار بذريعة مواجهة “تهريب الأسلحة حسب زعمه”. و”تقويض قادة الحوثيين من خلال الكشف عن معلومات استخبارية عن فسادهم” وتقديم إسنادات أمريكية لدعم دفاع مارب، مثل المساندة بالمعلومات للعمليات وإعادة إمداد المدافعين، وكذلك بناء شبكات إنذار مبكر مشتركة في البحر الأحمر بمزاعم مواجهة تهريب الأسلحة، وقد تجسدت التوصية الأخيرة لاحقا بتشكيل ما يعرف بالقوة 153 البحرية
إن السيطرة على مارب وإن كانت بالنسبة لصنعاء إحدى المراحل وصولا لاستعادة كل شبر يمني، تعد بنظر الولايات المتحدة تجاوزا لخطوط التقسيم العسكرية وكسرا لحواجز العزل الاقتصادية حيث ستستعيد صنعاء بعضا من حقول النفط والغاز، وسيساهم ذلك في تخفيف معاناة المواطنين التي راهنت عليها أمريكا كذخيرة للنصر.
وتنفيذا للتوصيات التي وضعها المسؤولون والخبراء الأمريكيون قاد المسؤولون الأمريكيون أواخر العام 2021م جهودا مكثفة لتوحيد التوجهين السعودي والإماراتي والفصائل الموالية لهما باتجاه خوض معركة في شبوة، لاستعادة المناطق التي سيطرت عليها قوات صنعاء، حيث التقى المبعوث الأمريكي ليندركينغ بمسؤولين إماراتيين وسعوديين تحت عنوان “تنسيق التوجهات بشأن أمن المنطقة “.(18)
ودعا ليندركينغ حينها إلى “التكاتف لمواجهة التهديدات المشتركة من استفزازات الحوثيين، كما قادت القائمة بأعمال السفير الأمريكي في اليمن “كاثي ويستلي” جهودا مماثلة لتوحيد الفصائل الموالية للتحالف، وزارت عدن برفقة ليندركينغ، وقد حثت بحسب بيان السفارة هذه الفصائل “على مواصلة تعزيز التنسيق الداخلي، بما في ذلك مع المجلس الانتقالي الجنوبي والجماعات الأخرى، لأن الانقسام يضعف جميع الأطراف”.(19)
وتمخضت هذه الجهود عن معركة في شبوة عادت الإمارات من خلالها إلى الواجهة رغم إعلانها قبل ذلك بأعوام انسحابها من اليمن.
وفي تقييم عقب هذه المعركة كتب نايتس وأليكس الميدا أن قوات صنعاء كانت قبل المعركة في وضعٍ جيد يمكّنها من السيطرة على مركز الطاقة الرئيسي في مارب، بالإضافة إلى ممرّ مهم آخر لإنتاج النفط والغاز بين تلك المدينة وخليج عدن، مروراً بمحافظة شبوة، مؤملين أن تخفف نتائج معركة شبوة الضغط عن مارب.
وقال التقييم: للمرة الأولى منذ بداية تدخل التحالف الخليجي في اليمن عام 2015م، تنسّق القوات المدعومة من السعودية والإمارات في اليمن عملياتها على المستوى التكيتيكي، باستخدامها خلية عمليات مشتركة في مطار عتق في شبوة.
وحث الخبيران الأمريكيان على أن تشارك واشنطن في إعادة قوات صنعاء إلى الجبال وليس حتى إلى المناطق القريبة من مارب، بحيث تكون مارب بعيدة عن متناولهم، وأن تدعم ضمنياً هذا الجهد لتحقيق الاستقرار في جبهة مارب وقطع الطريق بشكلٍ نهائي أمام إحراز الحوثيين نصراً شاملاً.
ولتحقيق هذا الهدف أوصى نايتس وأليمدا بعدد من الخطوات من أجل إرضاخ صنعاء للشروط الأمريكية أبرزها تشديد الحصار تحت ذريعة منع تهريب الأسلحة، والحفاظ على التعاطف الدولي المتبقي مع التحالف من خلال تقليل ما تم وصفه بالأضرار الجانبية للغارات.
وخلص التقييم إلى أن “الحوثيين” سيستجيبون للضغوط الأمريكية حالما يدركون أنهم سيعانون بشكل متزايد من العزلة والضعف بفعل العقوبات.(20)
وفي مطلع 2022م تم تشديد الحصار بشكل أكثر ضراوة من المراحل السابقة، بالتزامن مع أزمة عالمية بفعل بدء الحرب في أوكرانيا، مع ذلك لم تنجح هذه الضغوط في إخضاع صنعاء بل تصاعدت عملياتها ونفذت عمليات كسر الحصار الأمر الذي أثار قلق واشنطن ودفع بالسعودية لتحميل المجتمع الدولي المسؤولية عن العجز في إمدادات وقود الطاقة، ما اضطر التحالف إلى الرضوخ للمفاوضات وعرض الهدنة لمدة شهرين(تم تمديدها مرتين) التي كانت بالنسبة لصنعاء خطوة مهمة في تخفيف المعاناة الإنسانية على أمل أن تكون الضربات التي سبقتها قد أوصلت رسالة قوية بضرورة التوجه نحو سلام عادل.
“دعوا الحوثيين يسقطون الحوثيين”
تتلخص الخطط والتوصيات الأمريكية باتجاه وضع سلطة صنعاء في عزلة اقتصادية واستخدام الأساليب والتكتيكات المختلفة لتحقيق هذه العزلة بالتزامن مع تحريض الشارع تحت عناوين الفساد والخدمات لإسقاطها من الداخل، وقد كتب الخبير الأمريكي مايكل هرتون في 1 أكتوبر 2021م تحليلا نشرته مؤسسة جيمس تاون أنه “بعد 6 سنوات من الحرب في اليمن، هناك أمل ضئيل في أن تهزم أي قوة داخل اليمن أو خارجه الحوثيين عسكرياً. ومثل حركة طالبان في أفغانستان، يمكن للحوثيين وحدهم هزيمة الحوثيين. وفي مرحلة ما في المستقبل القريب، سيتعين على الحوثيين التحول من القتال الحربي إلى الحكم الحقيقي وتقديم الخدمات والفرص الاقتصادية والأمن لأولئك اليمنيين الذين يعيشون تحت سيطرتهم. وإذا فشلوا في تحقيق ذلك، وهو أمر مرجح، فإن مهاراتهم العسكرية لن تنقذهم”.(21)
تدرك صنعاء أن عليها مسؤولية تجاه مواطنيها ولذلك مع سريان الهدنة أعادت طرح تسليم رواتب الموظفين من عائدات الثروة النفطية والغازية ورفع الحصار بشكل كلي عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء كمقدمة يجب البناء عليها للتقدم نحو السلام، الأمر الذي عارضته واشنطن بشدة فتنفيذ هذه المطالب الإنسانية إعلان لمخطط العزلة والجوع كعقاب جماعي.
قال العضو السابق في مجموعة الخبراء الدولية جريجوري جونسون:بعد أكثر من ثماني سنوات من الحرب المدمرة في اليمن، هناك شيء واحد واضح، لا يزال الحوثيون يسيطرون على صنعاء. لم تدفعهم الضربات الجوية السعودية والإماراتية إلى اللجوء للجبال، ولم يجبرهم الضغط الدولي على الاستسلام على طاولة المفاوضات، بهذا المعنى، انتصر الحوثيون في الحرب، وفي هذا الوقت المتأخر، من غير المرجح أن يتم إجبار الجماعة عسكريًا أو دبلوماسيًا على الخروج من صنعاء… لكن بعد انتهاء الحرب سيكون الحوثيون أكثر عرضة للخطر نتيجة لأنهم يفتقرون إلى القوة الاقتصادية.(22)
ومن أجل كسب هذا الرهان كانت نقطة تسليم المرتبات شائكة للولايات المتحدة كما تؤكد مجلة ذا انترسبت، فمع انحسار مظاهر الحرب يبدأ الناس بمساءلة السلطة عن المرتبات والخدمات، ويفقدون اصطفافهم الذي كان خلال المواجهة، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة وتغذية على الأقل للوصول إلى أن يضع الناس في تقييمهم صنعاء والتحالف في مستوى واحد.
تقول مجلة ذا انترسبت أن وثيقة أمريكية مسربة عن البنتاجون تكشف قلق واشنطن من أي تقدم نحو إنهاء الحرب في اليمن قبل تحقيق الهدف الأمريكي، وبحسب المجلة: هرع الدبلوماسيون الأمريكيون في أبريل الماضي إلى السعودية للتأكيد على رغبة واشنطن في استمرار الحرب، كما صرح ليندركينغ أن “مطالب الحوثيين بصرف المرتبات متطرفة” ونوع من الألعاب السياسية التي ينبغي عليهم التوقف عن ممارستها.
وتضيف المجلة: لقد كانت قضية صرف المرتبات قضية شائكة للولايات المتحدة كما تؤكد المجلة، فواشنطن لا تريد أن يكون هناك أي اتفاق تفقد فيه مصالحها أو يصبح عملاؤها خارج الساحة السياسية).23)
وطرح المبعوث الأمريكي بشكل متكرر أن ملف المرتبات معقد(24) وأنه لا يمكن إلا أن يكون عن طريق مفاوضات يمنية-يمنية بعد أن تكون الحرب قد توقفت (25) وهو ما يعني أكثر من مقايضة في الملف الإنساني بالملف العسكري وبالإضافة إلى أنه سيكون بمثابة منح التحالف حق التنصل عن تبعات الحرب والنأي به عن المواجهة، ليس من المرجح أن يتم التواصل لاتفاق بشكل قريب مع الفصائل الموالية للسعودية والإمارات والتي لا تملك قرارها، ومن ثم تحول الحرب إلى حرب أهلية محلية لا يهم العالم متى تتوقف.
وتدرك صنعاء مخاطر الموافقة على الوضع القائم “مرحلة اللا سلم واللا حرب” ومن هنا جاء تأكيد السيد عبد الملك الحوثي وتحذيره الجاد للتحالف من الوضع القائم وما وصفه بالخطة “ب” ، منوها بأن على السعودية أن تتحمل تبعات رضوخها للضغوط الأمريكية.
*نقلا عن :الثورة نت
في الثلاثاء 22 أغسطس-آب 2023 08:29:09 م