|
إن الحرية التي ينشدها أرباب الفكر والثقافة لا تعني بأي حالٍ من الأحوال؛ أنهم يودون لأنفسهم التزام المعارضة للسلطة أياً كانت، وبغض النظر عن وجود السلبيات من عدمه، إذ المقصود هنا بأرباب الفكر والثقافة؛ أولئك الذين أخذوا على عاتقهم الحفاظ على أمانة الرسل والأنبياء، وعملوا من موقعهم كامتداد طبيعي لهم، لكي يعلموا ويزكوا الناس، ويأخذوا بأيديهم إلى ما ينفعهم في دار ممرهم، ودار مقرهم.
وهؤلاء بالطبع يختلفون تماماً عن ذلك الصنف الذي يلزم نفسه أن يكون معارضاً لكل شيء، إذ يُخيّل له أنه لن يكون صاحب فكر وثقافة إلا متى ما بقي ناقداً على الدوام، وبهذا يصير همه هو؛ كيف يعلق على الموضوع الفلاني؟ وما هي التحشية المناسبة لهذا القول أو ذاك؟ وما الذي يجب فعله حتى يصير على اطلاع بكل ما يصدر عن الآخرين، حتى يتمكن من التهميش عليه؟
ومثل هكذا مثقفين موجودون باستمرار في ساحة العروبة والإسلام، ولكن ليسوا المقصودين من وراء ما نرجوه ونهدف إليه في حديثنا، فنحن نريد بالمفكر أو المثقف هنا؛ كل قلمٍ يستطيع الإدلاء بالنقد البناء لكل ما يراه ويلمسه ويشهده في واقعه، ولديه الاستعداد لكي يسهم في تقديم الرؤى التي تؤسس لبناء واقع جديد، أفضل من الواقع السابق، وهو بذلك لن يكون متقوقعاً داخل عقدة النقد لأجل النقد، ولا يسعى في الوقت ذاته لكي يكون نواة لتكوين طبقة اجتماعية ذات نفوذ سلطوي، تصبح معروفة؛ بطبقة أهل العلم والمعرفة، ليقينه أن أيديولوجيا العلم لا تختلف عن بقية الأيديولوجيات التي ظل ينفر منها، ويهاجمها، ويعاني الويلات من وطأتها.
إن مشكلة المفكر أو المثقف ليست نتيجة ولائه أو معارضته للسلطة، فمن حق الجميع أن يوالي ويعادي، وينقد ويؤيد مَن شاء، ولكن شريطة أن يمتلك أدوات المعرفة، ويملك القابلية التي تكسبه بفعل المعرفة؛ فعل التفكير الواعي والحر، ومتى ما امتلك فكرا كهذا صار تفكيره عصيا على التحجيم في دائرة النقد لفلان، أو الدفاع عن علان، فهو الذي يفكر بحرية متعالية على مصطلح النقد أو المعارضة، كما أن مَن يتسلح بأدوات المعرفة، ويستطيع تحويلها إلى ملكة تكسبه القدرة على امتلاك فعل التفكير الواعي والحر سيصبح قادراً على إنتاج الفكر الذي يحوي بين طياته الالتزام والحرية والواقعية والحضور الواعي، والطرح العميق، الذي يواكب جميع المراحل والأحداث، وينتج كل ما تحتاجه الساحة من معارف تكسوها الجودة والسعة التي تغني الواقع كله عن اجترار ثقافات وأفكار الأمم الأخرى.
* نقلا عن : لا ميديا
في الإثنين 04 سبتمبر-أيلول 2023 08:31:42 م