«مدفع رمضان».. الآلة التي جلبها المستعمر للقتل وحولها اليمنيون إلى نداء حياة
الإثنين 19 إبريل-نيسان 2021 الساعة 02 صباحاً / متابعات - موقع لا الإخباري :
 
نشوان دماج / لا ميديا -
ربما هو صوت القذائف الوحيد الذي لم يكن ليعكر صفو اليمنيين، بقدر ما كانوا يترقبونه بلهفة واشتياق كطقس من طقوس شهر الصيام، وموعدٍ شهي لا يمكن أن يتغافلوا عنه بطبيعة الحال، ولكنهم يحبون أن يكون هو الذي يذكرهم به كل يوم.
ومع دخول العدوان على اليمن عامه السابع، وبقدر ما صُكت الآذان من دوي الانفجارات والغارات المنهالة، مازال اليمنيون يفتقدون إلى ذلك الصوت الذي اعتادوا عليه لمعرفة مواعيد الإفطار والإمساك في شهر رمضان المبارك، والذي أسكته طيران وقذائف وصواريخ العدوان الهمجي.
اقترن شهر رمضان في عدد من المدن اليمنية بصوت ذلك المدفع الذي يأتي بلا رائحة بارود ولا يذكر برائحة دم، بل حتى لا أحد من سكان المدن قد يتساءل عن شكل قذيفته وأين استقرت، وهم يسمعونه كل يوم وبالتوقيت ذاته طيلة شهرهم، حتى أصبح هذا التقليد جزءاً من موروث شعبي ممتزج بحكم وأمثال وطقوس.
المدفع الذي جلبه المستعمر التركي في وقت من الأوقات كآلة حرب وقتل ضد اليمنيين، حوله اليمنيون بدورهم، وفي وقت من الأوقات أيضاً بعد أن دحروا المستعمر بكل بطولة واستبسال، إلى آلة سلام وحياة؛ مع أن الصوت هو نفسه، والقذيفة هي ذاتها.
ترجع المعلومات التاريخية معرفة اليمن بمدفع رمضان إلى بداية التواجد العثماني الأول في الفترة من 1538 وحتى 1568 (945ـ 975هـ)، ثم أخذوا به تقليداً في العهود اللاحقة من حكم الأئمة.
وكتقليد حربي، ظل المدفع معروفاً عند اليمنيين باسمه الأول (المدفع العثماني)، كتذكير لذلك المستعمر بألا يجرب مرة أخرى حرباً معهم، مع أن ما عاد به من قصص تروى وقصائد تغنى حول بطولة اليمني وشراسته في الحرب كافٍ تماماً لتذكيره بذلك.
تورد بعض المصادر التاريخية أن عدد المدافع العثمانية التي ورثها جيش جلاء العثمانيين الثالث والأخير عن اليمن سنة 1917 (1337هـ)، بقيادة الإمام يحيى بن حميد الدين، يقدر بنحو 200 من المدافع المتنوعة، كمدافع المتراليوز والمدافع المحتوية على البطاريات، ومن أسمائها «المانتل» و«الجنبر» و«الهاون» و«عادي جبل» الذي كانوا يلقبونه بـ«البسباس»، و«الابوس» و«السريع العثماني» و«السريع المتوكلي».
ظل مدفع رمضان لفترة طويلة حكراً على العاصمة صنعاء، قبل أن يدخل المدفع الخدمة، في العام 2004، في مختلف محافظات اليمن، وقيام وزارة الدفاع حينها، بتجهيز ما لا يقل عن 105 مدافع يعود عمرها إلى بداية العام 1900، وإعادة تأهيلها للاستخدام في رمضان بواقع خمسة مدافع لكل محافظة.
اعتاد سكان صنعاء سماع المدفع في رمضان وفي الست من شوال وكذلك في عيد الأضحى، ثم انتقل التقليد إلى الكثير من محافظات اليمن الرئيسة، لما يشيعه من أجواء بهجة في هذا الشهر الكريم.
وعلى مر عقود طويلة، كان مدفع رمضان يُطلق مغرب وفجر كل يوم، معلناً موعد الإفطار أو بدء الصيام، كل يوم، بحيث يسبق صوت مآذن الجوامع عند الغروب أو عند صلاة الفجر، ويوحّد المواعيد، خلافاً للتفاوت الذي يحصل بنسبة ضئيلة في الأذان، بين جامع وآخر.
وبالنسبة للصائمين، فإن دقائق انتظار الأذان من أهم الأوقات، التي توحد السكان في مختلف البيوت، وهو ما جعل صوت المدفع أحد أهم ما يرتبط في أذهان السكان في صنعاء ومدن أخرى برمضان كل عام، على الرغم من أن مكبرات الصوت في الجوامع وغير ذلك من وسائل التكنولوجيا قللت أهمية الاعتماد على المدفع.
كان جبل «نقم»، الذي يطل على وسط العاصمة من جهة الشرق، من أهم المواقع التي ينطلق منها صوت «مدفع رمضان»، سنوياً، بعد أن انتقل موقع المدفع من على قصر غمدان (قصر السلاح)، وظهرت أيضا مدافع أخرى في سفح جبال عيبان وعطان تطلق ذخائرها في وقت واحد حتى يسمعها كل سكان صنعاء. ويخصص لكل مدفع طاقم من صف الجنود الأكفاء يتألف في العادة من أربعة جنود: الأول هو «المُعَمِّر» يختص بتعمير المدفع بوضع القذيفة في مكانها داخل الماسورة، والثاني «رامٍ» مهمته أن يشغل الترباس الذي يحكم إخراج القذيفة، والثالث «طوار» يختص بتبريد الماسورة بعد خروج القذيفة، والرابع مهمته إحضار القذيفة للمُعَمِّر أو «المعمارجي» كما يسميه المصريون.
محافظة تعز بدورها عرفت المدافع العثمانية مثبتة على الدوام في أبراج قلعة القاهرة، التي اقترن تاريخها بأدوار كثيرة في الدفاع عن المدينة قبل ثورة سبتمبر وبعدها، قبل أن يقتصر دورها على إطلاق مدافع رمضان فقط التي كانت من نوع الهاون.
مدفع متواجد في أحد سفوح "تبة الكريفة" بجبل صبر، وهي مرتفع يعلو قلعة القاهرة التاريخية المطلة على المدينة، وارتبط اسم المدفع بعامله الأول علي حمود، حتى أصبح لا يعرف إلا بـ"مدفع علي حمود"، وخصوصاً عند الأطفال، الذين يظلون متلهفين لسماع صوته معلناً وقت الإفطار، فيرددون على الدوام: "دفّعْ دفعْ يا علي حمود.. مرتك جاوع تشتي شفوت".
ورغم مضي ثلاثة عقود على رحيله، مازال علي حمود ملتصقاً بذاكرة التعزيين وأهازيج أطفالهم، حتى أسكتت الحرب منذ سنوات تلك الأهازيج مثلما أسكتت صوت مدفع علي حمود.
خلّف غياب مدفع رمضان في تعز، للعام الثامن على التوالي، أثراً ملحوظاً في نفوس الأهالي التواقين لسماعه، حيث يحظى بمكانة كبيرة عندهم، لاتصاله بطريقة إحيائهم الشهر الكريم على مدى بعيد، فضلاً عن كونه أبرز مظاهر الموروث الشعبي الرمضاني المترسخ في أذهانهم وتقاليدهم.
العلاقة التي تربط اليمنيين بالمدفع الرمضاني أكثر من علاقة تربطهم بمجرد آلة حديدية؛ إنها علاقة صداقة حميمة عمرها سنوات من الذكريات؛ مليئة بمشاعر إنسانية تخلو من التأثر لانقطاع هذه العلاقة التي ربطتهم برسالة نبيلة تحمل الفرحة لكل الصائمين، مُتمنين عودتها.
فرغم الحداثة والفضائيات والإذاعات ومكبرات الصوت في المساجد؛ إلا أن ذلك لم يؤثر على مدفع رمضان وسحر وقعه على القلوب، حاملاً البُشرى وعظيم الثواب في لحظات جميلة يعيشها الصائمون طوال أيام الشهر.

تعليقات:
    قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:
  • الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
  • منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
  • إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
  • إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
  • إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
  • العديد من الخصائص والتفضيلات
للتسجيل وحجز الاسم
إضغط هنا
للدخول إلى حسابك
إضغط هنا
الإخوة / متصفحي موقع الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره نحيطكم علماُ ان
  • اي تعليق يحتوي تجريح او إساءة إلى شخص او يدعو إلى الطائفية لن يتم نشره
  • أي تعليق يتجاوز 800 حرف سوف لن يتم إعتماده
  • يجب أن تكتب تعليقك خلال أقل من 60 دقيقة من الآن، مالم فلن يتم إعتماده.
اضف تعليقك
اسمك (مطلوب)
عنوان التعليق
المدينة
بريدك الإلكتروني
اضف تعليقك (مطلوب) الأحرف المتاحة: 800
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر عن رأي الموقع   
اكثر خبر قراءة أخبار وأنشطة ضد العدوان
السيد القائد يعزي أسر شهداء رداع ويؤكد : حادثة مدينة رداع مؤسفة ومؤلمة لنا
مواضيع مرتبطة
نهبٌ منظمٌ للثروة النفطية والغازية.. مأربُ عرشُ “الإخوان” الاقتصادي "2-2"
عملية هجومية على مواقع مرتزقة الجيش السعودي في الطلعة بنجران "صور + فيديو"
مجزرة قانا.. شاهدة على جرائم وإرهاب الاحتلال الإسرائيلي
احتجاز سفن الوقود.. معاناة إنسانية برسم المجتمع الدولي
هذا ما سيطرت عليه القوات اليمنية من الميليشيات السودانية