المذكرات جزء من نماذج السرد الحديث، يمزج بين الذكريات والوقائع، وبينهما شيء من التاريخ، وهي في الأصل سرد ذاتي قد ينجح أو يخفق جزئياً أو كلياً أو بينهما، حسب قدرات الشخص الفردية على التذكر، من ناحية، وتمتعه بمستوى من الخصائص الفردية الأخرى اللازمة لخوض هكذا تجربة، وهي الصدق والأمانة والدقة والموضوعية والحياد، وهي سمات نسبية تختلف من شخص إلى آخر، وتختلف حتى عند الشخص الواحد نفسه من زمن إلى آخر ومن مرحلة إلى ثانية، يتحكم بهذا التفاوت المختلف عدد من العوامل النفسية والذهنية والبيئية المحيطة، وحتى حالتا الوعي والمزاج النسبي اللذين يمر بهما السارد، صاحب المذكرات وكاتبها.
على الأفق ذاته وبالكيفية نفسها، تتوازى مع هذه السمات والعوامل المشار إليها في الفقرة السابقة، سمات وعوامل أخرى، وكذلك ظروف تتعلق بقدرات ومهارات شخص وشخصية كاتب المذكرات نفسه من حيث المستوى التعليمي ونوعيته، ومهارة الكتابة والابتكار، والوعي بتقنيات السرد ونقده وبناه، الفني المختلف والمغاير، المتجاوز للنمطية والتقليد خاليي الجودة والإبداع.
هناك كثير من المذكرات ذات السرد أحادي البعد، المتمثل في رص الأحرف والكلمات والجمل والعبارات غير المتجانسة واللامعبرة عن أي مضمون أو اللامؤدية إلى أي دلالة أو معنى من أي مستوى. وهناك مذكرات ذات طابع إبداعي راقٍ، يعبر عن قدرات ومهارات فائقة ومتراكمة لدى كاتبها؛ قدرات إبداعية وثقافة علمية وأدبية وحتى مهنية، وحس أدبي وذائقة فنية تجعل السرد بستاناً متنوعاً بمباهج المرويات على مختلف مستويات النص الدلالية، تحيلك من ناحية إلى معارف شتى، ومن ناحية ثانية تجتذبك لمواصلة القراءة والاستمتاع بمضامين المدونة السادرة، والغوص والتنقل داخل أبنيتها وأفيائها حد الإلمام بأدق تفاصيلها.
بالنسبة لي، تكاد المذكرات أن تكون علماً في السرد، أو جنساً في الأدب، أو رافداً من روافد التاريخ ومصدراً من مصادره، حسب مستوى المعايير المتوفرة في النص المسرود (المذكرات).
قرأت مذكرات وأكاد أذكر تفاصيلها المتناهية، رغم البعد الزمني في القراءة، تتميز بخصائص علمية في الكتابة، وفنية في الإبداع، ومهارات فردية واستثنائية في السرد، حد تجاور التاريخ والرواية والعلم والمعارف الخاصة والمهارات الإبداعية في توليف كل ذلك الكم في بناء متناسق الأبعاد، متراكم السياقات، كثيف الدلالات والرؤى.