ثمة ظاهرة تبرز في حياتنا وتحاول تأصيل نفسها كنسقٍ يأخذ حكم العادة والعرف، دون أن نوليها القدر الكافي من القراءة والتمحيص، وذلك قبل أن تفسد في حياتنا ما نحتاج في إصلاحه إلى الأمد الطويل.
من تلك الظواهر التي بدأت تتشكل وتتمظهر في حياتنا، ما نلاحظه من الانفلات الأخلاقي وعدم تقدير المسؤولية، أو استخدام المسؤولية لتصفية الحسابات مع الآخر، ولعل أشد أولئك وطأة بروز الذات وتمظهرها وغياب الموضوع/ الوطن من كل شيء وفعل وسلوك وممارسة.
وإذا كنا نلحظ بروز الذات كخيار سايكولوجي منذ هابيل وقابيل كفناء وإلغاء في مقابل التضخم… إلا أن ثمة وازعا تواضع الناس عليه وأصبح ضابطاً أخلاقياُ وربما شرائعياً أو عرفياً حدَّ بقدر ما من تسلط (الأنا) وتجبرها في محاولة إلغاء الآخر، ومع تماهي مثل ذلك الضابط وذوبانه في المفاهيم الغائمة تصبح الحياة غابة لا يمكث الأضعف فيها إلا أمداً قصيراً؛ لأنه واقع تحت أنياب الأقوى الذي تسيطر عليه أدوات الشر ومظاهر القوة فيعيث في الأرض فساداً.
وإذا كنا ننكر على الآخر تسلطه وطغيانه، وربما جبروته؛ إلا أن المنكر قد لا يتورع عن ذات الفعل والسلوك إذا توفرت له الدوافع والأسباب، وتهيأت له المناخات..، ذلك لأننا نصدر عن طبيعة واحدة..، وربما أحدثت البيئة الثقافية في عوالمنا النفسية ذات الاتجاه، ولو كان مخزوناً في لحظات معينة لأسباب موضوعية في اللاوعي، ولعل مثل هذه الحقيقة قد أدركها المتنبي مبكراً، حيث قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم ُ
إذن فالمعادلة الأصعب تبدو في النفس كقوة قاهرة ومقهورة، ظالمة ومظلومة، متسلِّطة ومتسلَّط عليها..، وبحسب ما يتهيأ لها، أو يقع تحت نطاق رعايتها، وقد تتفاوت المراتب والظواهر من بيئة مجتمعيه إلى أخرى تبعاً لمراتب الوعي والمناخات الثقافية السائدة، بيد أن المجتمعات البدائية أقرب إلى الصراع الهابيلي والقابيلي، حيث أن فناء الآخر يصبح مطلباً غرائزياً، إذ أنها لا تتعامل مع البدائل التي تشبع الغريزة، وترفض الفناء كمطلق، كما يحدث في بعض الأنظمة التي جاءت من عمق النسق الثقافي والاجتماعي، وتوافقت مع المكون التراكمي والثقافي، وأصبحت تعبيراً عنه لا طارئة عليه..، وبذلك يحدث ما يشبه الانسجام والتلاؤم بينها وبين أفراد شعبها، وقد نلاحظ احترامها لهويتها التي درجت عليها دون تمايز أو طبقية، وربما كانت على تناقض تام مع الأنظمة الثورية التي ترى في الآخر ضداً مهدداً لوجودها، فكان تعاطيها مع مفردات الواقع وفق الفكر الوجودي الهابيلي والقابيلي، وبذلك فإن الصراع كان سمة غالبة تجلى ذلك الصراع في شعور الآخر بتهديد هويته الثقافية، وطغيان الآخر وتسلطه، وبمغايرته للنسق الثقافي الجمعي التراكمي، فكان وجود التنظيمات السرية تعويضاً للذات، أو انتصاراً لمقدراتها وتأريخها، ويمكن قياس ذلك على الحالة اليمنية منذ النصف الثاني للقرن الماضي وحتى الآن.
إذ أن النظام الثوري الذي تشكلت ملامحه في النصف الثاني من القرن الماضي لم يأتِ كضرورة اجتماعية أو ثقافية بل كان طارئاً، وأحدث تصادماً مع القيم الاجتماعية والثقافية، فكان صراع السبع السنوات التي أعقبت الثورة صراع هوية، ووجود، وانتهى ذلك الصراع بشعور القوى الثورية بالانكسار، مما عزز لديها الشعور المضاد لتلك الحالة الانكسارية..، ليفضي ذلك الشعور، إلى حركة 13 يونيو 74م التي لم تستمر كثيراً إذ تم وأدها في 11 أكتوبر 1977م من قبل ذات القوى التي رأت فيها تغايراً يهدد وجودها على مسرح الحياة، وظل مثل ذلك الصراع قائماً تجلى في مقتل أحمد حسين الغشمي ومحاولة الانقلاب الفاشلة في أكتوبر 1978م على الرئيس علي عبد الله صالح، وفي الفوضى واللا استقرار الذي أحدثته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، كما تجلَّى في الصراع على الحدود بين شطري الوطن حينذاك، ومثل ذلك أو قريب منه حدث في جنوب الوطن وأن كان يأخذ غطاءات متعددة أخرى، بسبب ما أحدثه الاستعمار من تحول في البني الاجتماعية وانزياح في الوعي .
بعد حركة (13 يونيو 74م) أدرك أحد طرفي النزاع أهمية المؤسسة العسكرية في إحداث التحولات..، فحاول التغلغل في نسيجها العام وبنى تحالفات استراتيجية مع بعض قادتها الذين كانوا أقرب إليه ميولاً وفكراً، وكان من نتائج ذلك التحالف ما حدث في (11 اكتوبر 77م) الذي شكل ملامح سلطة (17يوليو 78م).
على ذات النسق تجري الأحداث اليوم منذ أحداث 2011م إلى إعلان العدوان على اليمن في مارس 2015م، فالذين هربوا إلى خيار مساندة العدوان من القوى الوطنية كان هروبهم تعبيراً عن هزيمة للذات الوطنية في نفوسهم وبحثا عن ثراء زائف على أنقاض الجماجم وشلالات الدم المراق، والذين أعلنوا الحرب على اليمن بتحالف كبير خافوا القادم الجديد الذي تشكل في صنعاء بروح ثورية تحمل همَّ التغيير والمستقبل وكان منطقهم السياسي والإعلامي في غاية الهشاشة وخارج قواعد المنطق السليم، فسهل على الغرب المستعمر توجيه المسارات بما يعزز حركة الانقسامات التي ينشدها وفق استراتيجية الشرق الاوسط الجديد.
وأمام مثل ذلك الواقع الذي وصل الحال إليه، ينبغي للعرب الوقوف أمام الظواهر الثقافية في مساراتها وسياقاتها المختلفة بقدر من الوعي الذي يستوعب الرؤى النقدية الحديثة، ويستوعب المستوى الحضاري والثقافي الذي وصلت اليه البشرية، ففي عقدين من الزمن حدث انقلاب كبير وتحول العالم إلى قرية صغيرة، وتبدلت أشكال العلاقات وأدوات الإنتاج تبدلاً كبيراً، وبالتالي أصبح التفاعل مع الحياة الجديدة بعد الثورة الجديدة في التقنيات يتطلب انتقالاً كبيراً يتوازى وحجم التغير والتبدل الذي حدث، وبحيث نستوعب المراحل ونحد من بواعث الصراع المدمر.