يرى الكثير من المفكرين أن الهند نجحت في التعالي على الأجانب، لا عبر هدايتهم الى الديانة أو الثقافة الهنديتين، بل عن طريق التعامل مع تطلعاتهم بقدر رفيع من الاتزان ورباطة الجأش , فقد دأبت على التعامل مع المستويات الحضارية الجديدة وإذابتها في بوتقة الحياة الهندية دون خوف , فعظمة الهند تكمن في قدرتها على التحدي ضد أي تأثير غريب ولذلك فرضت تأثيرها وشروطها على النظام العالمي الجديد , وهي تجربة إنسانية فريدة يمكن الاستفادة منها , وإن كانت لدينا أسس هذا النوع من التعايش تجسدت بذرته في «وثيقة المدينة « لكن الفكر العربي ظل محكوما بالنص , ولذلك تقيَّدت حركة تطور المجتمعات .
وحتى نعي المستوى الحضاري الجديد الذي وصل اليه البشر لا بد أن نسلم بالحقيقة الجوهرية الثابتة التي ترى أن الفكرة الدينية فكرة ثابتة لا يمكنها التغيُّر في بعديها العقائدي والاخلاقي بقطعية النصوص , ولكن المشروع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قابل للتحول والتبدل ويمكن ابتكاره وابداعه من تفاصيل الزمن الحضاري ولذلك فقضيتنا لا تنحصر في موضوع الدعوة وفرض ثقافتنا وعقائدنا على الآخر فقد حصرها النص الديني بالبلاغ والبلاغ قابل للتحقق من خلال المشروع الاجتماعي والسياسي وشواهد التاريخ دالة على ذلك .
أذن تشذيب التراث من كل شوائبه التي فرضتها الضرورات التاريخية والسياسية هو البداية المثلى لصناعة مشروعنا السياسي الذي يتفاعل مع العالم من حولنا ليكون مؤثرا فيه لا متأثرا به , والآخر يخاف من المشروع السياسي المتجدد ولذلك سعى الى اغتيال رموز النقد والتنوير واستمال العلماء اليه ومن رفض نالته يد الغدر ولو جال البصر في الزمن المتأخر منذ عقد الثمانينيات لرأينا هذه السياسة بشكل جلي وواضح , لكنه لا يخاف الفكرة الدينية بل تعامل معها بقدر من التفكيك والتشويه وشواهد ذلك كثيرة بدءا من أفغانستان ولا نقول انتهاء بداعش فالقائمة ليست محددة بزمن .
لذلك نرى التأكيد على مبدأ التعايش , من خلال صيغة جامعة , فالتفرد أصبح مستحيلا وهو محكوم بالنهايات التراجيدية وبدوائر الصراع .
وبالتأمل في الواقع نجد الحقائق التالية :
– التفرد مستحيل ومن حق الكل أن يعبر عن وجوده .
– الشراكة الوطنية ضرورة وطنية لا بد من تعريفها وتجديد أهدافها .
– المصالحة الوطنية – ولو حصل فيها غمط – ضرورة مرحلية حتى نجتاز عتبة التآمر وترتيب البيت من داخله .
– مراجعة الذات والبناء المؤسسي القادر على التفاعل مع المستويات الحضارية الجديدة , والقادر على صناعة مشروع سياسي مؤثر في النظام العالمي لا متأثر به .
– تنمية الذات والاشتغال على تفجير طاقاتها , وتنمية حركة النقد وصناعة الرموز الثقافية الواعية القادرة على صناعة الابعاد الاستراتيجية .
– تنمية البعد الثقافي والاستفادة من توظيف كل الفنون لخدمة المشروع السياسي والاقتصادي كما دأبت بعض الدول كتركيا مثلا .
***
تلك التوجهات يجب أن تكون نصب أعيننا بعد أن تضع الحرب أوزارها , ونحن نتوقع أن يكون هناك توجه في المباحثات الجارية أو القادمة لخفض نسبة التوتر في الجبهات العسكرية والاشتغال على التدافع بعد أن بلغ المستعمر غايته من السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم بخط الملاحة الدولي والسيطرة على منافذ الغذاء .
لذلك يصبح الاستغراق في الحرب عبثاً لا طائل من ورائه، فهو لن يجعلنا نصل الى نتيجة لصالحنا ولكن بالحساب المنطقي لصالحه فهو يهدف الى تبديد القوة البشرية المناهضة له , ولذلك يمكن البناء على حركة الصمود الاسطورية وتوظيفها في السيطرة على مقاليد المستقبل والتحكم بمساراته وهي تحفظ لنا قوتنا البشرية من الفناء الذي يريده المستعمر , فالتفاوض أصبح ضرورة تفضي بنا للخروج الآمن من دوامة الصراع الداخلي لنتمكن من مواجهة العدو الحقيقي الذي يستخدمنا كأدوات لبلوغ غاياته ومآربه .
وخيار التفاوض خيار مطروح بقوة من جانب صنعاء , وطالما وهو نتيجة حتمية سواء حدث اليوم أو غدا فلا بد من الاستعداد لما بعده , ولنا في تجارب التاريخ عظات وأمثلة يمكننا الاستفادة منها والبناء على نتائجها حتى يكون الوطن ما بعد العدوان أقوى وأشد عودا وأصلب .
لا ينبغي لأدوات العدوان أن تشعر براحة الضمير بل لا بد أن تعذبها الذنوب والخطايا من خلال تكثيف الاشتغال على الفنون وتوظيفها التوظيف الملائم حتى تبلغ غايتها ومقاصدها الوطنية .
كما أن كشف أثر الذنوب والخطايا المرتكبة في حق الوطن وحق المواطنين وحق السلم الاجتماعي من خلال تصحيح المفاهيم ومن خلال الوعظ ومن خلال بيان الصورة التي كانوا عليها من حيث الذل والغفلة قد يترك أثرا نفسيا يفضي الى جلد الذات ومن خلاله تسعى الذات الى التطهر من خلال البوح وكشف المخطط والحقائق ويسعى الوطن الى توظيف ذلك في تحصين الهويات من الاختراق والنفاذ من خلالها لزرع الشقاق .
فالتفاوض – كما في صلح الحديبية – ليس اعتدادا بالقوة بل هو خيار السلام وبه ومن خلاله نستطيع تغيير المعادلات الكيمائية حتى تكون قادرة على انتاج عنصر جديد نحن نعرفه سلفا من حيث لا يدرك الخصم ذلك وبالتالي نفرض خياراتنا نحن كما ينبغي لها أن تكون .