كان التناحر المناطقي والسلالي والعرقي من طبيعة المجتمع العربي قبل الإسلام، وكانت الطبقية والتمايز من السمات البارزة في المجتمعات العربية الجاهلية، وحين جاء الإسلام لم تكن تلك الحالة التي عليها المجتمع العربي إلاّ ظاهرة اجتماعية كانت قد بلغت ذروتها، ولذلك جاء الإسلام ليمحو أمثال تلك الظواهر الاجتماعية ويؤكد على مبدأ التوحد والمشترك الإنساني، ولذلك رفع من شأن بلال بن رباح وآخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يفرق بين سلمان الفارسي وبين أي أموي وهاشمي بل قال بالبعد الإنساني.
ويُؤثَر عن الإمام علي -كرَّم الله وجهه- قوله: إنما الناس اثنان أو صنفان، صنف أخ لكم في الدين وآخر شبيه لكم في الخلق، أي في البعد الإنساني، وقد حاول المشروع الإسلامي أن يجدد في المجتمع الإسلامي ويحدث انتقالاً وتبدلاً، بيد أن الثقافات القديمة لا يمكن لها أن تترمَّد ولكنها وفق طبيعتها ووفق قانون التاريخ تعيد إنتاج نفسها وفق شروط المرحلة وتجلياتها الثقافية، وقد رأينا يوم السقيفة كيف حاولت تلك الخصوصيات أن تعلن عن نفسها في صور ومستويات متعددة، ولم يكد الزمن يمضي حتى اندلعت الحروب والصراعات وكانت المقومات القديمة للمجتمع الجاهلي هي الباعث وهي الموجه الثقافي الذي يدير الصراع.
في “صِفّين” كانت تلك البواعث أكثر بروزاً ووضوحاً، وقد قال حينها عمار بن ياسر: «إني لأرى وجوه قوم لايزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون، والله لو هزمونا حتى يبلغوا منا سعفات هجر، لكنا على الحق وكانوا على الباطل، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله»، واشتغل الطموح السياسي على العصبية القبلية والمناطقية، فهمدان قاتلت ثأراً لعمار بن ياسر إلى أن أثخنت جيش معاوية، ومعاوية استنفر القبائل ورؤساء العشائر وفق أسس وموجهات ثقافية وعصبيات عرقية وطبقية.. وقد روى المسعودي في كتابه «مروج الذهب» أن عبدالملك بن مروان أمر الناس بالعطاء فخرجت بدرة مكتوب عليها «من الصدقة» فأبى أهل المدينة قبولها وقالوا إنما كان عطاؤنا من الفيء، فقال عبدالملك وهو على المنبر: ” يا معشر قريش، وليكم عمر بن الخطاب فكان فظاً غليظاً مضيقاً عليكم، فسمعتم له وأطعتم، ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليناً كريماً فعدوتم عليه فقتلتموه، وبعثنا عليكم مسلماً يوم الحرّة فقتلتموه، فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبداً وأنتم تذكرون يوم الحرّة، ونحن لا نحبكم أبداً ونحن نذكر مقتل عثمان”..
والثنائية التي تستر نفسها في خطاب عبدالملك بن مروان هي الثنائية الصراعية بين هاشم وأميَّة وقد كانت إشارات المسعودي واضحة وإن كان أورد مفردة قريش على مطلق العموم إلاّ أن هاشم هي التي لا تقبل عطاء الصدقة وتقبل عطاء الفيء، كما أن الرموز التي وردت في السياق دالة على تجدُّد المحمولات الثقافية الجاهلية بعد قرنين من الزمان، وفي قول ابن الزبير الموجه إلى ابن عباس كما روى ذلك المسعودي في كتابه “مروج الذهب” والذي يقول فيه:
“إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة ” وتقول كتب الأخبار والتاريخ إن السفيانيين والمروانيين كانوا يسبّون بني هاشم وآل أبي طالب من على منابرهم، وتروي تلك الكتب أن ابن الزبير خطب أكثر من مرة ونال من الإمام علي واتسعت دائرة الصراع، واتسعت مع تلك الدائرة دوائر موازية وكان للباعث الثقافي الجاهلي دور في الوصول إلى الولاية ودور في إدارة الصراع السياسي.
والخوض في تفاصيل هذا الموضوع يحتاج إلى مجلدات، والقضية ماتزال في طور التجدِّد مع كل صراع وكل حالة تحوّل تحدث في المجتمعات العربية، وهي في اليمن ذات بعد تواشجي لعدة عوامل تاريخية منها مناصرة هذا الحي من اليمن للمشروع الإسلامي، وخصوصية العلاقة مع الإمام علي والطالبيين منذ بدء الصراع بين الأمويين والهاشميين، كما تدل على ذلك كتب الأخبار والتاريخ، التي رصدت تموجات الحركة التاريخية.
ويبدو أن المعيقات الاجتماعية في التطور والتحديث ماتزال تضرب بسياجها حتى اليوم الذي يشهد العالم هذا الانفتاح الكوني في المعرفة وفي الفلسفة وفي الاشتغال الإنساني الذي يتجاوز العرقيات والسلاليات والأبعاد المناطقية، ومن الغريب أن نجد في واقعنا اليمني من يتحدث عن فرز ثقافي، كما عند اليسار الذي يرى الزيدية طبقة غير عاملة ومستغلة للطبقة الشافعية العاملة.. وقد برزت أصوات في شبكة التواصل الاجتماعي على أسس عرقي وسلالي، ويبدو أن اليمن ما يزال يقف في طريق السيل إن لم يتداركه أبناؤه ويخرجوه إلى الأفق الإنساني الذي يتسع للكل.
نتمنى على السيد القائد عبدالملك الحوثي أن يولي هذه الثغرة في جدار البناء الاجتماعي والثقافي اهتماما مضاعفا حتى نذهب إلى المستقبل بخطوات أكثر تماسكا وبرؤى أكثر فهما في السيطرة على مقاليده، وحتى لا يجد العدو فينا ثغرة فينفذ منها لزعزعة استقرارنا .
نحن اليوم في أشد الحاجة إلى إحياء المشروع الإسلامي، وليكن المولد النبوي هو الملهم حتى نضع الجاهلية الاجتماعية والثقافية والعصبيات ونعلي من شأن المشروع الإسلامي العالمي بروح المعنى الكبير للإنسان الذي حمله الإسلام وشوهته الصراعات .
فإعادة الاعتبار لدور الثقافة كسلطة اجتماعية تفرض نفسها بالاصطدام بالواقع وتغييره، بعد أن غاب هذا الدور أو كاد، في العقود الماضية لأسباب سياسية بحتة .
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين ثقافة المشروع؟ كيف تصبح فاعلاً وقادراً على الفعل والتغيير؟
إذا ترسخت في أذهاننا ثقافة المشروع حينها سنكون قادرين على التغيير وفق محددات ثلاثة هي:
– الوقوف أمام الماضي ومساءلة مصادره المعرفية والثقافية، ذلك أن الماضي يعيق نظام الطاقة على الحياة والقدرة على التجديد.
– مساءلة الحاضر البشري الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفقد أثره وإنتاجه وطبيعته الاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل الخلق والابتكار ضمن حدوده النسبية لا المطلقة ومن خلال مكونه ومنظومته لا من خارجه، بمعنى التغلغل في نسيجه العام وإعادة ترتيبه وصياغته وتأهيله..
– الوقوف أمام أسئلة المستقبل وخلق إمكانية التحكم به عبر أدوات ومناهج العلم والتخطيط، لا الفوضى والارتجالية وسوء التخطيط التي نعاني منها في مظاهر حياتنا سواءً الفردي منها أو الجمعي.