قراءة في مجموعة محمد المنصور ” سيرة الأشياء “
الذاتي والموضوعي وبُعدهما الرؤيوي
تعدُّ مجموعة محمد المنصور ” سيرة الأشياء “، الصادرة عام 2003م، عن اتحاد الأدباء والكتَّاب اليمنيين، ومركز عُبادي للدراسات والنشر ،هي الأحدث قياساً إلى البدايات الأولى، التي ربما تعود إلى عقد الثمانينات من القرن الماضي ، وينحصر مضمون المجموعة زمنياً، بين عام ( 97م ) و (2002 )م، وهي تمثل خلاصة التجربة وليس كل التجربة الإبداعية التي بدأت متصالحة مع الشكل القديم، ثم مع التفعيلة، وصولاً إلى الشكل الأجد- المتمثل بقصيدة النثر- الذي أصبح مستقراً إبداعياً للشاعر، فكانت مجموعة ” سيرة الأشياء ” ، تمثل تلك القناعة الشكلية الأحدث .
ويبدو لي أن الشاعر مقلّ، إذ أنه متعدد الاهتمامات، يتنازعه التحليل السياسي، والقراءات النقدية ، ومهامه الصحفية اليومية، ومثل تلك الاهتمامات تكون في الغالب على حساب الشعر، الذي يأبى التنازع، لكنها تكسب المبدع رؤيا واضحة تجاه الموضوع، وموقفاً من الأشياء، وهذا ما يتجلى من خلال “سيرة الأشياء ” موضوع حديثنا.
جاءت المجموعة في ( 121) صفحة، من القطع المتوسط، تتوزعها عناوين فرعيه داخلية، وهي ( جُرح فاطمة ، سيرة الأشياء ، مشاهدة ، أسماء الشتاء ) والمجموعة في مجملها تبحث فيما وراء الأشياء، لتجد تفسيراً شعرياً لها ، هذا التفسير قد يتعالق مع التأريخ، كما نجد ذلك في نص ( جُرح فاطمة )، الذي بدأه بومضة تختزل مضمونه،.. يقول في ومضته تلك :-
وجعي بئر
يزيده الوقت
عمقاً منذ السقيفة
(المجموعة ص 17)
هذه الومضة ، تحمل موقفاً من التاريخ، فهى ترى امتداد الماضي في الحاضر وتجذره، وهي رؤية تتسق ورؤية البردوني ، القائلة أن الحاضر وليد الماضي، لأنه امتداد منه ، والسقيفة هنا، إشارة إلى الصراع والجدل على السلطة ، والصراع هنا ليس صراعاً موضوعياً، بل ذاتياً ،ترك جرحاً غائراً لا يندمل في جسد الأمة ، وفي كيانها لتجاوزه الشروط الموضوعية، إلى الشروط الذاتية … يقول في بداية النص :-
من نهارها العالي
سقطت فاطمة
كثمرة لجرح
……………
سال دمها بريئاً
تبكي الطين الذي سقطت عليه
وتشكر الملائكة
( المجموعة ص 18)
ففاطمة هنا يتنازعاها سياقان ، السياق الموضوعي التاريخي ،والسياق الذاتي ، السياق الذاتي يتمثل في كون فاطمة ابنة الشاعر، وقد تكون سقطت فعلاً، فتداخل الذاتي مع الموضوعي، حتى أضحى السقوط هنا سقوطاً حضارياً ،لاتساع بؤرة الخلاف، وتجذر الصراع ، بين الذاتي والموضوعي ، وقد جاء السقوط هنا ثمرة لجرح، هذا الجرح ما يزال يزداد عمقاً منذ السقيفة ،لأنه لا يحمل تفسيراً موضوعياً للأشياء … يقول : –
النهار كاد أن …
وفاطمة كادت أيضاً
صرخات النسوة حررتني من اليقظة
فزع أمها
وسيلان الدم من فمها
يفسر لماذا هبّ الجيران
ولا يفسّر لماذا سقطت فاطمة
( المجموعة 19 )
فالتفسير هنا تفسير ظاهري لما هو ماثل، ولكنه لا يذهب عميقاً إلى ما وراء الأشياء، بل جاء كاستجابة آنية لمعطيات اللحظة المؤلمة، وقد جعل منه الشاعر عمقاً تأملياً مرتبطاً بالموضوعي ، لعامل السقوط الحضاري :-
– صراخ يُحيل المدينة إلى فجيعة
– جرح فاطمة شفة أخرى للوقت
– فاطمة في الجرح وأنت جوارها تتذكر
( كربلاء )
– الأصدقاء يحزنون من اجل فاطمة
– لأننا ننتمي إلى جرح قديم
( المجموعة (20)
فالتعالق بين اللحظة الحضورية المؤلمة ،واللحظة الغائبة الضاربة جذورها في أعماق التأريخ تعالق انتماء لجرح مؤلم، ما زال ينزف ، فالحزن حزن قديم، والجرح جرح قديم ،وليست اللحظة الحضورية إلا امتداد لهما، وشفة أخرى لذلك الجرح، تحاول إعادة صياغته بما يتوافق ولحظتها، التي تتسم بالسكون والعدمية والتكرار، وعدم قدرتها على التفاعل الجاد مع الإنزياحات الحادثة في فضاءات الحياة بكل تجلياتها المعاصرة، كما يتجلى ذلك في هذه اللوحة :-
الأصدقاء الذين مضوا
كانوا هنا
أراهم جيداً
أحلامهم التي تركوها
رماداً هادئاً
مضوا
باتجاه ليل لا يتسع لوسائدهم
أين يضعون رؤوسهم المبللة بالخجل ؟
الأصدقاء الذين
تتوزعهم الحارات
ينظرون من نافذة واحدة
لنفس الغيمة الأسمنتية
**** المجموعة (10)
فالحلم هنا يوازي القوة الدافعة أو المتحركة، التي قد تكون سبباً في إحداث التغاير لما هو سائد ، لكن الحلم هنا يتحول إلى رماد هادئ ، أو شيء منطفئ لا يحمل وهجاً، كما كان متوقعا، لإنارة الحاضر والمستقبل، ومع انطفاء الحلم وترمده مضى الأصدقاء باتجاه ليل لا يتسع لوسائدهم ، والشاعر هنا يشير إلى امتداد الماضي، واستسلام الأصدقاء لشروطه القاهرة المعيقة لدينامكية الحاضر، الذي يتسم بالثبات والعطالية في بعدهما الفلسفي والاجتماعي، كما يتجلى ذلك في المثال التالي :-
ها هم يعودون
يحمل بعضهم جرح بعض
يتأملون
الروائح الخاوية
في جيوبهم
ها … هم
يعودون بعد نهار
متخلين عن أشياء كثيرة
بما في ذلك الانتظار
المجموعة ( ص 17)
***
فالمسافة التي تفصل بين الفعلين المتضادين ” مضوا ” ،و”يعودون ” ليست أكثر من فراغ ، هذا الفراغ جعلهم يتخلون عن أشياء من المحسوسات المادية والمعنوية، بل ومتخمين بشعور اللا جدوى واللا فائدة، من الحركة في المكان الذي خلع كل أشيائه التي تزينه، ليصبح عارياً لا ينتج إلا غباراً أو أظافر، تجرح ذلك الجسد المتهالك :-
كم يلزمنا من الوقت
لنخلع هذا العري ؟
في المدينة التي تبيض أشجارها غباراً
وتمنح الوحل أظافر إضافية
السؤال هنا ليس مفتوحاً، وإن بدا كذلك في سياق النص، لكنه في سياق الحزمة النصية، التي تستظل عنواناً جامعاً، هو ( جرح فاطمه )، يبدو في جدل مع حلم
” الأنا ” الشاعرة وتطلعاتها، وذلك في تأكيدها على عنصر الإيمان ،كقوة موازية لجبروت الواقع وطغيانه ،كما يتجلى ذلك في المثال التالي :
أزرى بسالك قلبه الحزن الحرون
تتفلت الأيام من دمه
وتفجعه الدمامة
أينما استلقى على جهة تخون
لانت حرائق أمسه
لكنه ما لان
ما استهواه غير الفجر
يدلج في سراه المؤمنون
المجموعة ( ص 22 )
فالفجر هنا لا يدل على الزمان، بقدر اتشاح دلالته بالبعد الثوري التغييري، والإدلاج والسُرى لا يكونان إلا في الليل ، وهما هنا يوحيان بسوداوية الواقع ورتابته وتكراره ، بل وثباته، كما يدل هذا المثال :-
نرتدي أياماً بالية
اكبر أو أقل مما يلزمنا
الكلمات كذلك ننسخها عن آخرين
الليل من بين العادات الأخرى .
الأماكن ، الوجوه، الوجع نفسه
نشعر وكأنه ليس جديداً
ونحن كذلك لا نستطيع الفخر
بأننا نحن للمرة الأولى
المجموعة ( ص 26 )
***
فالإدلاج في مثل هكذا واقع يتطلب إحساساً وإيماناً بضرورة الحركة التي قد تعمل بحكم فاعليتها ، على إحداث قدر من التجديد، في الأشياء والموجودات المكانية ، بل وتغذية الوجدان ، بالإحساس الحالم والمتطلع إلى التغاير، بعيداً عن إفرازات التاريخ التي تمتد في الإنسان بشكل متداخل بين الذاتي والموضوعي ، ما أفضى إلى فساد الرؤيا، وأدّى إلى التباس الفكرة، وأفرز إنساناً مستلباً، يفقد مقومات البقاء العطاء والتجديد .
هذا المعطى الرّؤيوي كان أحد اتجاهات مجموعة “سيرة الأشياء” الموضوعية، التي تعددت اتجاهاتها، وقد أشرنا إليه في السياق، بالقول بتفسير الأشياء بعاملها التاريخي ، أما الاتجاه الآخر، فهو تفسير الأشياء بما وراءها ، أي التفسير بالميتافيزيقيا كما هو في المثال :ـ
يرحل الموت عن العالم
حين لا يهتم به أحد
أو في قوله :-
الكلاب التي لا تعضُّ أحداً
ولا تنبح
يعني أن لها موقفاً من الوقت نفسه
أو التفسير من خلال المقومات المتداخلة للأشياء، كما في نص ( سبع حالات لصخرة الوقت )، الذي يحاول تفسير المكان، من خلال مقوماته البيئية والتاريخية والثقافية والعقائدية ، وقد اتخذ البعد التأمُّلي حيزاً معقولاً في المساحة النصية التي تشكل المجموعة .
من جانب آخر، فإن المجموعة تحفل بقدر من التجريب المتداخل في عوالم النص وتقاطعاته ، فالنص عند محمد المنصور كما نلحظ ذلك في المجموعة يأخذ أربعة مسارات هي : –
– المسار الأول : النص المتداعي والسردي ، وهذا النص تتآزر جزيئياته لتكوين كلياته الدلالية فتجده يتداخل مع تقنيات النص السردي، كما في هذا المثال :-
الطرقات . .. والأشياء
تبتسم ، بينما نحن مطوقان بالحلم في موكب الضوء
والمطر
الغبار وحده كان غافلاً عما يجري
تحت ثيابنا المبللة ثمة دفء وطفولة، تكبر تحت ثيابنا
ثمة في الشرفات عيون … في الأزقة
الكلمات هناك
وعلى غير عادتها تركتنا وحيدين
نجوب المعنى وقامتنا المكشوفة للمطر
تجرجر ظلنا في الحواري (المجموعة ص 76 )
***
– المسار الثاني : هو النص والنص المعترض ، والاعتراض هنا اعتراض نصي موازي
( رأسي )، يتداخل في السياق النصي معترضاً الانسياب الشعوري للنص الأول ، ووظيفته بيان موقف ” الأنا ” من ” الأنت ” أو “الهم” ، كما يتجلى ذلك في هذا المثال :
يعودون بعد نهار
متخلين عن أشياء كثيرة
بما في ذلك الانتظار
**
كم يلزمنا من الوقت
لنخلع هذا العري
في المدينة التي تبيض أشجارها غباراً
وتمنح الوحل أظافر إضافية ؟!
****
أيها البشر الذين يتسلقون الهواء
الصدفة وحدها
من تدفعكم لهذا الحضور الفاضح
**
الأصدقاء مضوا
أي نهار جاء من الرحيل؟!
(المجموعة ص 11 ، 12 )
المسار الثالث : النص … والنص الموازي ( الأفقي ) ،والنص الموازي الأفقي يأتي في الغالب مختزلاً لدلالة النص / المتن ،أو موضحاً لإبعاده النفسية والذهنية ،كما يتجلى ذلك في هذا المثال :-
– ضوء من (العيدروس ) بروز اتساعي
برعم الغراب الكثير روحي تحلق
أمشي إلى لحظتي بحنين
لا يظن على بحضرته ، أشتم منه البهاء
صعوداً إلى الله يفضي الطريق
سلام عليه هنا في مداه
(المجموعة ص 51 )
***
– المسار الرابع : النص الومضة، وفيه يلجأ إلى تكثيف الدلالة والإيحاء، ومثل هذا المسار تبدأ به النصوص، أو ينفرد بذاته، وقد يكون بعنوان منفرد ، وقد لا يكون، والنصوص الوامضة التي لا تستقل بذاتها وتؤطر ضمن عنوان جامع تكون في أبعادها الموضوعية عبارة عن تأملات في الأشياء والموجودات ، كما في نص
( حنين لم يجف …. ص 69 من المجموعة )، وهذا المسار يشكل ظاهرة نصية عند محمد المنصور .
نخلص إلى القول إن نصوص المجموعة تنبثق من الذات وتشظّيها وتعالقها، لذلك فجدل الضمائر لا يكاد يبين في بعض النصوص ، إذ تقف “الأنا” الشاعرة موقف الراوي أو المتأمل، فتأتي الصورة متحركة بين قطبي الصدق والكذب الخبري، متسمة بقدر من الثبات، وهذا الموقف يحد من الفاعلية الذهنية وجدلها في مسافات النص، ويجعل للتأويل أطراً لا تكاد تتجاوز حدود اللون التشكيلي، وجماله التناسقي في الصورة الشعرية ،كما غاب عن المجموعة التنضيد الهندسي الذي يعتبر سمة فنية بارزة يؤكد عليها رواد هذا الشكل الشعري، وله وظائفه الفنية يقول أنسي الحاج :-
” في كل قصيدة نثر، تلقي دفعة فوضوية هدامة ، وقوة تنظيم هندسي ومن الجمع بين الفوضوية لجهة ، والتنظيم الفني لجهة أخرى ، وفي الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة ” .
* المصدر : الثورة نت