بعدَ أكثرَ من سِتِّ سنواتٍ من الحرب والعدوان والتدمير، يكتشفُ ابن سلمان أن الحوثيين يمنيون وبهم نزعة عروبية، وهم ليسوا فارسيين، لم يدله على هذا الاكتشاف سوى البأس الشديد الذي لم يهزم ولم يَلِنْ في جبهات المواجهات، وحسب الظن كان يعتقد أن الحربَ مع اليمنيين نُزهةَ صيف.
لم يسمعْ ابنُ سلمان كلامَ العقلاء من أرباب الفكر والسياسة، مثل هيكل الذي قال له في بداية عدوانه على اليمن: ستحاربُ السعوديّة اليمن وستغرقُ في مستنقع اليمن، وسوف ينتصرُ اليمن.. وطوال زمنِ العدوان يتكرّر القولُ على لسان قائد الثورة السيد المجاهد عبد الملك بدر الدين الحوثي: نحن رجالُ سلام ولسنا رجالَ استسلام.. ولم يفهمْ ابنُ سلمان ما كان يقال له، أَو ما قيل، حتى رأى من آيات ربه الكبرى في ميادين الشرف والبطولة ما جعله يعترفُ بيمنية الحوثي الذي كان يراه مجوسياً وفارسياً في خطابه السياسي والإعلامي، ولم يدركْ أن الحوثي هو اليمنُ واليمنَ هو الحوثي، فالحوثي لم يكن إلا جزءاً من كُـلٍّ، وهو حالةٌ اجتماعيةٌ وثقافية وسياسة وعسكرية يمنية خالصة، لم تأتِ من خارج اليمن، ولم يكن لها ارتباطٌ تنظيمي بالخارج بل علاقات ندية ومصالح مشاركة.
مكرُ ابن سلمان في تصريحاته الأخيرة كان واضحًا، فهو يريد أن يقولَ للعالم بأن بلادَه مع إحلال السلام في اليمن، وكأنها بعيدةٌ كُـلَّ البُعد عما يجري، وليس هي مَن يقودُ الحربَ والعدوان ومَن يفرض الحصار ومن يقتل ويدمّـر.
هذا الانزياح لم يعد مجدياً في زمن الانفتاح الكوني، وكان بإمْكَانه أن يلجأَ إلى حِيَلٍ جديدةٍ تتسقُ والحالَ الحداثي الجديد الذي وصل التقدم التقني اليوم إليه، لكنه يمعنُ في الغباء فيقعُ في عَمَهِ الطغيان؛ ولذلك تعددت ردود الأفعال على تصريحاته عند الناشطين السعوديّين في شبكات التواصل الاجتماعي قبل غيرهم فهم بين منكسر وناقم وساخط ولاعن له، حتى هناك من أفراد الأسرة المالكة مَن خرج يدعو إلى تجسيدِ بطولات الأجداد في الحد الجنوبي في الدراما بدل المحتوى المتكرّر للدراما السعوديّة حسب قوله، ومثلُ هذا الكلام دالٌّ على الأثر النفسي الذي تركته تصريحاتُ ابن سلمان على الخواص والعوام من السعوديّين، فالذين يقولون ببطولات الأجداد والآباء، شعروا بالهزيمة من تصريحات ابن سلمان فهربوا إلى الماضي؛ بحثاً عن تعويضٍ من مرارة الحاضر الذي قادهم إليه الغباءُ السياسي، والذين مالوا إلى النقد -وهم كُثْرٌ–، يرون أن ابنَ سلمان أهدر إمْكَاناتِ الأُمَّــة في الفراغ ولم يحقّق شيئاً يُذكر، مثل هؤلاء لم يكن يجرؤ أحدٌ منهم على قول ما يقوله اليوم وهو يفنّد سياسةَ ابن سلمان في اليمن على إثر تصريحاته الأخيرة، وفي ذلك إشارة واضحة ورموز بيّنة على التململ، وتصدُّعِ النظام العام والطبيعي.
تلك الحالة يُفترَضُ بنا الوقوفُ أمامها وتنميتها واستغلال الفجوات داخلها والتحَرُّك في مساحاتها برؤىً علميةٍ واستراتيجية واضحة، للوصول إلى حالة جديدة قد تفيدُ حركةَ المقاومة للمشروع الصهيوأمريكي التدميري الذي يستهدفُ العربَ والمسلمين، فالحرب لم تعد حرباً عسكرية، بل تعددت مستوياتها، والوعيُ بالحال الجديد يجعلنا أكثرَ قدرة على السيطرة على مقاليد المستقبل.
نحن اليوم على أعتابِ مرحلة جديدة، فالعدوُّ يتداعى وينهار ويفقِدُ مفرداتِ قوته يوماً بعد آخر، ونحن أصبحنا نملِكُ زمامَ المبادرة ونسيطرُ على مفردات اللعبة السياسية والعسكرية، ولا بُـدَّ لنا من التفكير في البُعد الثقافي حتى تكتملَ أبعادُ النصر ومفرداته، فالنقصُ الذي نتركُه في المستوى الثقافي قد يكون سبباً مباشراً في التعثر إذَا لم نتداركه بوعي وبصيرة وحنكة واقتدار.
وتأكيدُ قائد الثورة في جُلِّ خطاباته على الوعي لم يأتِ من فراغ بل من شعور بالغ بأهميته والوعي متعدد المستويات فحتى تكونَ مؤثراً في النظام العالمي الجديد لا متأثراً به، وخاضعاً له، لا بُـدَّ لك من الدراسة والبحث، ووضع الاستراتيجيات لتصل إلى أهدافك، فالقضايا السياسية ليست حالاتٍ طبيعية مطلقاً، بل تصنع بقدرات ذهنية، وكل صناعة تتطلب اهتماماً مضاعفاً من الرعاية والتشذيب والسقاية حتى نصل إلى الثمرة.
فالنصرُ الذي تلوحُ بيارقُه اليومَ لا يكتملُ إلا بالوعي في المستويات الحضارية والثقافية والسياسية الحديثة، فالانتصار العسكري يصبحُ دون جدوى إذَا لم يتعاضدْ مع غيره، ذلك أن اليوم لم يعد مثلَ الأمس، والغدُ لن يكون مثلَ اليوم، فالتغيُّرُ المتسارعُ في المستوى الحضاري الحديث يتطلبُ وعياً به لا قفزاً على حقائقه.