|
المُثقَّف البدر بامحرز الذي افتقدنا سناه في ليلٍ يمانيٍ حالك السواد
بقلم/ د.عبدالعزيز بن حبتور
نشر منذ: سنتين و 10 أشهر و 20 يوماً السبت 01 يناير-كانون الثاني 2022 07:09 م
ودَّعت الجماهير الحاشدة في غيل حبان ومحافظة شبوة المُثقَّف الرائع الأستاذ/ بدر أحمد حيدرة بامحرز، في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر عام 2021م إلى مثواه الأخير في قرية قرن بامحرز، ودَّعته تلك الحشود من الناس وهي حزينة مكلومة لفراق أحد أعلام الثقافة والفكر في محافظة شبوة واليمن عموماً.
تعود بي الذاكرة في تعارفنا ومعرفتنا ببعضنا إلى نهايات حقبة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن في زمن السلطنة الواحدية، حينما كُنّا تلاميذ مبتدئين في (المعلامة) أو المدرسة الابتدائية في قرية الغُرير بـ غيل حبان التي أسسها وأدارها الحبيب /أحمد بن محسن بن علوي الجنيدي رحمة الله عليه في منتصف الستينيات من القرن العشرين.
ترافقنا وتزاملنا معاً من المراحل الابتدائية من سن الطفولة واستمرت علاقتنا الأخوية إلى أن ودَّع هذه الحياة الفانية قبل أيام من كتابة هذه المرثية عليه، والتي نتذكر فيها «البدر» الإنسان المشع نوراً وعِلماً واجتهاداً وثقافةً وإبداعاً.
كان الصديق «البدر» من أبرز الشخصيات التي بحثت ونقَّبت وحلَّلت في التراث الشعبي الشبواني، وبالذات في جانب الشعر الشعبي الذي تمتاز به محافظة شبوة، كون مادة الشعر والشعراء هي المجال الثقافي الأوسع والأرحب والمتاح في الأزمنة الغابرة من حياة ريف أهلنا في اليمن، فهي المادة الثقافية الشيقة التي تتحلق حولها جلسات السمر والطرب في الليالي الحالكات، وإنَّها المادة الثرية التي تجد لها حضوراً شعبياً بين الأهالي، والشعر في أرياف اليمن كان المنبر الثقافي الأعلى كعباً بين المحافل الأخرى.
لذلك استغل «البدر بامحرز» بفِطنة وحِنكة وبصيرة مجال البحث في التراث الشعري ليستخرج من مناجمه العميقة كنوزه الثمينة التي عبَّرت عن فهم المجتمع اليوم لحقبة تاريخية من تاريخ شعبنا اليمني، وظلَّ حبيس مخابئها متناثراً بين أوديتها، وتائهاً بين رمالها وصحاريها.
هكذا هُم النَّدرة والقلائل من المُبدعين والنَّابهين والفطِنين في الحياة أمثال صديقي «بدر بامحرز»، اجتهدوا وتعبوا وتجشَّموا وعورة الصِّعاب القاسية لكي يُوثِّقوا أعمال الغير من الحُكماء والشعراء، كي تتناقلها بعد ذلك الأجيال المتعاقبة بيسر وسهولة، إنَّ ذلك لعمري هو قمة العطاء والتفاني في الحياة، ورسالة عظيمة وسامية لا يقوم بها إلاّ المتميزون الأذكياء الجادُّون أمثال «البدر بامحرز».
كُلَّنا عابرون في هذه الحياة الفانية، ولن يبقى لنا إلاَّ ما ورد في الحديث النبوي الشريف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
بحسب علمي بأنَّ «البدر بامحرز» ينتمي لأسرة كريمة فاضلة متماسكة اجتماعياً ولم تتأثر بظاهرة الإعلام العصري المُتردي، وبقيت لُحمة الأسرة على سجيتها الريفية الطيبة المتحابة المتقاربة، ولديه أبناء صالحون بارون بوالديهم، وهذه بطبيعة الحال تُعدُّ ضمن الظواهر الإيجابية المتبقية للأسرة اليمنية المتماسكة.
إن أبحاث وكتابات وكتب الصديق العزيز المثقف/ بدر أحمد بامحرز، ستُبقيه حياً فينا، وسيبقى ما خلَّفه من عِلمٍ نافع يُنتفع به للأجيال القادمة بإذن الله تعالى، وليس هناك خلود في هذه الحياة الفانية سِوى تلك الأسطر الذهبية التي سهر الليالي لها، وتعب بالساعات لكتابة حروفها ورسمها في وجه الصفحات البيضاء التي ستعيش عُمراً ودهراً من بعده بإذن الله تعالى، وهو العِلم التُراثي المُوثَّق شِعراً الذي سيعود إليه طالِبو العلم في المدارس والمعاهد والمراكز العلمية وحتى الجامعات، أقول أنا هُنا أي بذخ راق أكثر حضوراً من هذا الحدث والأجيال القادمة من بعده تتذكَّر وتستذكِر بكبرياء وشموخ واعتزاز، حينما يتم تداول اسمه الكريم، تتداول اسم صديقي، صديق الطفولة «بدر البدور المحرزي بامحرز» في أروقة العِلم والدرس وردهات العِلم والمعرفة، نعم إنَّه شرفٌ سيعتز به كل من ينتسب إليه جيلاً بعد جيل.
إنَّه والله يستحق البدر الوضاء لذلك التبجيل والتكريم والاحترام من ذوي الاختصاص في قادم الأيام والأزمان، لأنَّه باحثٌ جاد لم يورث للأجيال سِوى كُتبه وأبحاثه، ولذلك سيُقابل بجميل البحث والتقصِّي والانتاج المعرفي في أروقة البحث العلمي بالجامعات اليمنية بإذن الله تعالى.
لقد كان «البدر» رائداً مبشراً بعلمٍ موثقٍ لم يسبقه في غيل حبان أحد، وصيته تجاوز شبوه كلها، وظلَّ اسمه يُعد أحد المُثقَّفين على مستوى الوطن اليمني كله، وهذه ميزة الإنسان المجتهد والجاد الذي يفتش في ثنايا الحياة عما يفيد منها لمصلحة الإنسان، لقد وضع اصبعه على المجال الثقافي الذي سيُبدع فيه ويقدم ذاته المعرفية من خلالها، وكان له ما أراد فعلاً. أتذكر أننا تحدثنا وإياه لساعاتٍ طويلة حينما كنت مسؤولاً في جامعة عدن، وأذهلني كثيراً في طريقة السردية الجميلة التي يحكيها عن قضية الشعر والشعراء وتراثهما، وهو يعتبرها قضية أصيلةً ذات أبعادٍ اجتماعية وثقافية وسياسية في المجتمع، لقد كانت أطروحاته عميقة الدلالة والمعنى والأبعاد المستقبلية في موضوعات الشعر والسياسة والمجتمع، فأعجبت بثقافته الواسعة وتعاملت معه بجدية واحترام لما يمتلكه من مخزون معرفي ثقافي رصين، وساهمت معه في طباعة كتابين من كُتبه عبر دار جامعة عدن للطباعة والنشر والتوزيع، حينها شعرت بالارتياح والمسؤولية.
امتاز زميلي وصديقي «البدر بامحرز» بالشجاعة الأدبية والإنسانية والأخلاقية حينما يتناول في أحاديثه وموضوعاته وكتاباته تلك القضايا الوطنية والاجتماعية، وهي شجاعة فطرية مقرونة بموهبة ربَّانية في البحث والتقصِّي والتحليل والكتابة، وزاد عليها بمثابرة الباحث الجاد الذي تجشَّم صِعاب التنقيب عن المخطوطات والكتابات في لفافات الأوراق المُهترئة، ومن أماكن متفرقة في قرى محافظة شبوة، والتي لم يكن يُعرف عنها الاهتمام بالتوثيق والحفظ والأرشفة لتلك الكنوز الأدبية الهامة، لعدم شيوع الاهتمام العام بهذا المجال في الأوساط الشعبية وحتى الرسمية، لذلك ينبغي أن نتذكره بكثير من الاحترام والتقدير لجهوده الكبيرة.
لم أتطرق لجميع مناقبه وتأثره وتأثيره في الحياة الثقافية في المجتمع الشبواني خصوصاً واليمني بشكلٍ عام، لأنني سأطيل كثيراً من هذه الأسطر، لأنَّه ببساطة كان مديراً عاماً للثقافة في شبوة، وكان ناجحاً بامتياز ولسنوات ليست بقليلة، وكان قد ترأس هيئة تحرير عدد من الصحف والمجلات المتخصصة في الشأن الثقافي، أتمنى أن تُجمع كتاباته وكُتبه في كتابٍ شامل يُحفظ فيه تراثه للأجيال القادمة، وأن يُطلق اسمه على أية مؤسسة ثقافية بارزة في محافظة شبوة، تكريماً لذِكره ووفاءً لعطائه وتفانيه في الحقل الثقافي التراثي.
ندعو الله جلَّ جلاله أن يتغمد الفقيد «البدر بامحرز» بواسع رحمته، وأن يسكنه في خلود جناته الواسعة، وأن يُلهم أهله وذويه ومحبيه عُشَّاق كتاباته الصبر والسلوان، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾
*رئيس مجلس الوزراء |
|
|