تجري العادة على الاحتفاء بالموالد النبوي الشريف مجردا من المعاني، والغالب أنه تحول إلى مناسبة دينية مجردة وجامدة، وطالما ونحن نعيش المناخ الثوري بحكم التزامن هذا العام بين ذكرى الثورات وبين المولد، فينبغي أن يتغاير احتفالنا بالمولد هذا العام، فالتوافق الزمني له دلالته، والمولد له دلالته الثورية أيضا، فحين جاء الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام لم يأت إلا حاملا مشروع ثورة ذات عمق دلالي كبير في البناء الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، وفي الدلالات التحولية العميقة، فالإسلام لم يكن سوى ثورة عميقة أحدثت انحرافا عميقا في كل البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولذلك فالتزامن يجب أن يكون بداية طريق على مسارين، هما :
– البنية التحولية في الواقع الذي كاد أن يتجمد ويشابه ما كان عليه الحال في زمن الرسول الأكرم .
– تنمية البناء الثوري الرافض للعبودية والاستغلال والغبن والظلم.
ففي المسار الأول، نحن مطالبون اليوم بثورة ثقافية، تعيد ترتيب النسق العام والطبيعي إلى مساره الحقيقي، فالكثير من البنى كادت أن تتعفن بسبب غياب العقل، وتعطيل خواص التحول والتفكير، وذلك بالبناء على البنية النصية – أي بتعطيل العقل والركون إلى النص – في تنمية الموجهات، وفي الغالب النص هو الذي يحكم الحالة الثقافية العربية، ويعود ذلك إلى فترات زمنية تحولية، وهو غير ملزم لنا اليوم، بسبب أن المستوى الحضاري الذي نحن فيه يتغاير تغايرا كليا عن ذلك الزمن، فالمجتهد الذي تعامل مع واقعه وخرج بفقه يلبي حاجات المجتمع في زمنه كان بشرا، تعامل مع واقعه تعاملا مسؤولا، واجتهد بما يحقق المصالح المرسلة للأمة في زمنه، وهو لا يقل شأنا عن غيره، ولذلك من حق الكل أن يتعامل مع المسائل الاجتهادية بما يتسق والمستويات الحضارية الجديدة للمجتمعات، فبدلا أن يذهب الكثير إلى النظريات الغربية في صياغة مجتمعات حديثة تتسق والواقع المعاش في مستواه الحضاري المتجدد، يفترض بهم أن يعودوا إلى تراثهم الثقافي فيبدعون من خلاله نظرية جديدة تكون تعبيرا عنهم، وذلك بالاستفادة من تجارب الغير مع المراعاة الكلية والجزئية للهويات المحلية الثقافية والاجتماعية والتاريخية، فنحن نملك الكثير من التجارب في كل العصور والأزمنة التي مرت بوطننا وبأمتنا التي اتسعت راياتها حتى وصلت إلى مشارف فرنسا .
لدينا الكثير من الإشكالات اليوم، فقد ظل الفكر الإسلامي عاجزا عن الوقوف أمامها رغم حيويتها وفاعليتها في حياتنا المعاصرة منها المعاصرة والأصالة، ومنها الدولة الحديثة العادلة، ومنها العلاقات الشائكة مع الآخر المختلف، ومنها عوامل النهضة وتنمية القدرات، ومنها عالمية الإسلام، ومنها الاشتغال الفكري على القضايا الإنسانية المعاصرة، فالكثير من المآخذ اليوم تجد في هذا البعد ملاذا للنيل من الإسلام رغم أن الإسلام في بداية تفجر ثورته أولى هذا البعد اهتماما خاصا، فاشتغل على فكرة الحريات الاجتماعية والثقافية، وانتصر للحقوق، وعمل جاهدا على الانتقال السلس والآمن من العصبية القروية إلى المدنية التي تحترم التعدد والتعايش والسلام الاجتماعي، وقد كانت وثيقة المدينة أول دستور في حياة البشرية كلها، وكان مجتمع المدينة متعدد الثقافات والتنوع الاجتماعي، ولم تجمعه العصبية الاجتماعية بل جمعته الهوية المكانية والثقافية .
لا يمكن لأي تجمع بشري أن ينشأ وفق تجانس ثقافي بعينه، فالتعدد سمة لازمة لكل تجمع بشري، ولذلك فالتجانس من المستحيل أن يكون، وقد فصل القرآن في هذا وتحدث عن المنهاج والشريعة المغايرة، وأخضع الكل لميزان لا يظلم فتيلا وهو ميزان الله، لذلك فالانتقال من القروية إلى المدنية أمر كان له دلالته في المنهاج الإسلامي ولا بد لنا من الوقوف أمام هذه الإشارات لأنها تتداخل مع صميم التجارب المعاصرة في الدولة المدنية الحديثة القائمة على التعدد والتعايش والسلام الاجتماعي واحترام الآخر, فالحقوق من حق كل البشر، والتمايز ظلم غير وارد في منهاج الشرائع، والتفاضل لا يكون إلا بمستوى القرب من الله أو البعد عنه، ومن مقاصد الشرائع، ومن سلامة النوايا وعموم النفعية، وما سوى ذلك احتيال، ولذلك كان قول الإمام علي عليه السلام: “إنما الناس صنفان : أخ لك في الدين أو مساو لك في الخلق ” .. حالة جامعة لكل البشر وكل الشرائع لأنه صادر من مشكاة جامعة للمناهج والشرائع ، وهو شعار أصبح مرفوعا في المؤسسات التي تهتم بحقوق الإنسان في العالم .
أما المسار الثوري الثاني وهو تنمية البناء الثوري الرافض للعبودية والاستغلال والغبن والظلم، وهو مسار ثورة الحسين، ففي ظني أن الوقوف عند هذه الفكرة يحتاج وعيا كبيرا، فنحن اليوم في محك التجربة، ولا يبدو الواقع متفاعلا مع هذا المسار إلا بما يتناقض مع مفرداته، ولابد من تصحيح المسار في هذا الاتجاه، فنحن نرفض الظلم ولا ينبغي لنا الوقوع في الظلم، ونرفض العبودية ولا دليل على الحريات، ونرفض الاستغلال وشواهد الحال غير مطمئنة في مجمل التفاعلات والممارسات، ولعل نظرة فاحصة وناقدة وجريئة قادرة على التصحيح، ما لم فنحن نعمل ضد أنفسنا ونترك للعدو مساحات شاسعة يتحرك فيها، وقد رأينا خلال سوالف الأيام في وسائل التواصل الاجتماعي موجة من الاحتجاج الصامت والرافض، وربما تحول السكون إلى حركة، ورموز الواقع ومؤشراته يفترض أن تقرأ في سياقها، فالتضليل والقفز على حقائق الواقع هلاك وضياع، وليس من الحكمة في عالم السياسة اليوم أن تتعامل مع الواقع بترف القوة والتمكين، فلو كانت القوة ذات قيمة لاستفاد منها من سبق من الأمم، وقد كانوا أكثر قوة وأشد تمكينا، فالانحراف ظاهرة طبيعة في كل حركة تاريخية لكن من الحكمة الوقوف أمامها بقدر عال من المسؤولية .
خلفنا تاريخ حافل من الحركات والثورات واللبيب من يقرأ التاريخ ويتعظ، وفي ثورة الرسول الأكرم حالة نظرية قادرة على صناعة النجاح لنا في حاضرنا إذا حضرت الحكمة وتغلبنا على غرور الذات .