كيف للعالم أن يطمئن لشـخص يكون بيده مصير الإنسانية جمعاء؟ وكيف يثق بإدارة محاطة بشخصيات متطرفة مهووسة تكون محيطة بذلك الرئيس الذي ينقض العهود والاتفاقيات بهذه البساطة والرعونة؟ ألا يمكن في لحظة طيش صبياني وشيطاني أن يبدأ بالحرب العالمية الثالثة المدمرة للحضارة البشرية في عصرنا الراهن، تحت وهم الاعتقاد بأن الأميركيين هم أسياد العالم وأن جميع دول المعمورة مطلوب منها أن تخضع لمشيئة وإرادة ورغبة أميركا.
يتذكر العالم صدور عددٍ من الكُتب والأبحاث والدراسات ونشرها في مطلع التسعينيات من القرن الـ20 لكُتاب ومنظرين غربيين ليبراليين، روجت بزهو مُتعالٍ وبثقة مُفرطة لفكرة أن النظام الليبرالي هو نقطة النهاية وأن لا خيار أمام الأمم والشعوب إلا هذا الخيار من النظم السياسية الحاكمة للعالم، خاصةً بعد سقوط جدار برلين في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989م، إيذاناً بسقوط المنظومة السياسية الاقتصادية الاجتماعية للبلدان الاشتراكية وفي مقدمتها جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
من هؤلاء الكاتب الأميركي البروفيسور/ صامويل فيلبس هانتنجتون، الذي ألّف كتاب “صراع الحضارات”، وزميله الأميركي البروفيسور/ يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما، الذي ألّف كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الآخر”، وآخرون من المفكرين الغربيين أمثال/ برنارد لويس، وزيغينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي (1977-1981م)، وغيرهم العديد من مفكريِّ الغرب، وبرزت على شبكات وسائل الإعلام العالمية العديد من الخطابات والمقالات والأبحاث بعد الهزيمة المدوية التي لحقت ببلدان حلف وارسو، والمنظّمة الاقتصادية العالمية الكيمكون، وظهرت النظرية الاشتراكية الشيوعية المستندة إلى الفكر الماركسي اللينيني (وهي التي كان البعض يظنها الأرقى) وكأنها قد هُزمت فكرياً وإلى الأبد.
هؤلاء وغيرهم من المفكرين المحافظين أنتجوا أفكارهم من بيئة ثقافية محافظة على القيم الرأسمالية التي يتباهون كثيراً بها، وهي حماية الملكية الخاصة وحرية الاقتصاد الحر بآلية السوق المعروفة، وحماية حُقوق الإنسان، والتمسك بحرية الرأي والرأي الآخر، وسيادة القانون العام، والتمسك بالنظام الديمقراطي، والانتخابات الحرة … إلخ.
كل ذلك التراث الإنساني الذي ورثوه من أسلافهم وعملوا على تطويره، كانت جميع الأطراف المشاركة في العملية السياسية للمجتمع ومن كل الاتجاهات الفكرية أكانت تيارات يمينية محافظة أو يسارية ذات طابع اجتماعي، أو من تيار الوسط الحزبي الليبرالي أو حتى اليمين المتطرف، تقاتل للحفاظ عليه وعلى النظام الديمقراطي الليبيرالي خاصةً باعتباره خلاصة التجربة الإنسانية في حكم وإدارة مصالح جميع الطبقات في الغرب الرأسمالي برمته.
بيد أن أولئك المُنظرين ينكرون على بقية شعوب الكرة الأرضية أي تجارب إنسانية أخرى، ولا يعترفون بتطور النظم السياسية للشعوب الأكثر تراثاً وحضارة من التجربة الغربية! والسؤال الهام هنا يتحدد بالآتي:
هل هذا النوع من النظام الليبرالي هو آخر ما أنتجه الفكر الإنساني؟
وبالتالي يعد الضامن لعدم الانزلاق إلى مصاف النظم الديكتاتورية؛ ولأن تضمن المجتمعات الغربية بهذه الآلية من النظام عدم ظهور نظام فردي دكتاتوري قمعي من جديد؟
في حقيقة الأمر أن قولاً كهذا، كما يدعيه غُلاة منظري فكرة نهاية التاريخ لمجرد سقوط جدار برلين في (9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989م)، يُعَدُّ فكرة مغامرة، لا بل متعصبة إيديولوجياً، والرد ببساطة شديدة نستمده من تاريخ نشوب الحروب بين الدول الاستعمارية (الديمقراطية) ونستمده أيضاً من تاريخ الدماء والدمار ورماد الحرب العالمية، الأولى والثانية، والبلدان التي اندلعت الحرب منها، وهي بلدان نُظمٍ ديمقراطية أصيلة بالمفهوم الغربي الرأسمالي، فقد اشتعلت النيران كذلك من وسط بيئة ثقافية متطورة هي بيئة الفلسفة الأوروبية ذات الباع الطويل في إنتاج الفكر الفلسفي العميق! أليس إيمانويل كانط، وجورج فيلهلم فريديرش هيجل، ويوهان فولفجانج جوته، وكارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وفريدريك إنجلز، ويوهان هيردر، هؤلاء الفلاسفة والمفكرون الألمان الذين ملأت فلسفتهم أرفف مكتبات العالم بفكر لا يضاهيه فكر ولا ينافسه رأي آخر؟ وفي الجانب الفرنسي كان الفلاسفة والمفكرون أمثال: رينيه ديكارت، فولتير، جان جاك روسو، جان بول سارتر، جول ميشليه، وغيرهم من المفكرين الذين كان دورهم التنويري بارزاً في تأسيس فكر ثقافي عالمي لا يشق له غبار. و مع ذلك تندلع من بين ثنايا وزوايا فكرهم المستنير ومجتمعه تلك الحروب الطاحنة التي خسر العالم فيها أرواح الملايين من بني البشــر!!
وللتذكير فحسب، فإن حزب العمال الألمان الاشتراكيين الوطنيين أو المعروف اختصارًا بـ “الحزب النازي” وزعيمه الفوهرر أدولف هتلر، قد وصل إلى سُدة الحكم كمستشار في ألمانيا عبر صندوق الاقتراع وتحت قبة البرلمان الألماني “الرايستاج”، ووفق آلية النظام الديمقراطي الليبرالي، واستخدم في حملته الانتخابية لغة انتخابية شعبوية ضيقة خاطب بها الجماهير الناخبة بأنكم أنتم أقوى أمة في التاريخ، وألمانيا فوق الجميع، وأنكم أرقى جنس بشري في العالم، وهو الجنس الآري النقي، ذو الدم الأزرق الصافي، وأن ما تعيشونه الآن من ضنك بالحياة الاقتصادية هو بسبب اتفاقية الذل للشعب الألماني والموقع عليها في قصر فرساي الفرنسي، وبسبب تدمير الاقتصاد الألماني من قبل قوميتيِّ اليهود والسلاف الطفيليتين على اقتصادنا.
بهذا الخطاب العنصري القاتل استمال العديد من الناخبين الألمان مِمَّنْ فقدوا أعمالهم ومدخراتهم في زمن الكساد العظيم الذي عاشته ألمانيا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
خلاصة القول، أن الفوهرر أدولف هتلر وحزبه النازي هما نتاج منبت النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي، ولم يكونا خارجه البتة، والقارئ اللبيب قد عرف بأن “هتلر” هو من أعلن فصول مأساة الحرب العالمية الثانية، وهو من أنشأ معسكرات الاعتقال للسلاف والروس والسوفيات عموماً، والغجر، واليهود، والمثليين، وحتى ذوي الإعاقات الجسدية.
ولا ننسى هنا أن نشير إلى أن الزعيم الإيطالي الفاشي/ بينيتو موسوليني، وهو رفيق درب أدولف هتلر وصديقه، وصل إلى رئاسة الوزراء ومن ثم لرئاسـة الجمهورية الإيطالية من رحم النظام الديمقراطي الليبرالي أيضاً.
هذا ما جاد به التاريخ الغربي الاستعماري في ثلاثينات القرن العشرين، وأصبح محرزاً وموثقاً في أرشيف المؤسسات الأكاديمية والسياسية في جميع بلدان العالم، ومحفوظاً في ردهات وصناديق المتاحف العالمية باعتباره يتضمَّن تجربة بالغة القسوة من ماضي البشرية، كي تدرسه وتتعلم منه أجيال العالم.
فهل تتكرر التجربة الدموية بصور أخرى في أي بلد “ليبرالي ديمقراطي” تجاه البشرية؟ من يدري؟
دعونا نستعرض تجربة جديدة، حينما ظهرت تحديات جديدة قديمة في المجتمعات الغربية (أوروبا وأمريكا) وتحولت بعد ذلك إلى مادةٍ انتخابية شعبوية عنصرية مُقرفة. فقد ظهر خطاب شعبوي أبرزته الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، مثالاً: الجبهة الوطنية الفرنسية بقيادة السيدة/ لوبان، وحزب البديل الألماني المتطرف الذي حاز على قرابة الثلث من أصوات الناخبين الألمان؛ كما تبنى ذلك الخطاب الشوفيني الشعبوي السيد/ دونالد ترامب في أميركا.
ما هي أبرز خطوط الخطاب الشعبوي الذي تبناه المرشح الجمهوري السيد/ دونالد ترامب في انتخابات الولايات المتحدة الأميركية الأخيرة:
أولاً:
ركز على منع المهاجرين من الدخول إلى أميركا ووصفهم بأقذع المسميات ووعد ببناء سُور فاصل بين المكسيك وبلده، وطلب من الحكومة المكسيكية تمويل بناء السور؛ وفي ذلك قال الرئيس المكسيكي/ انريكو بِنَا نيتو، عن خطابات ترامب بأنها شبيهة إلى حدٍّ بعيد بخطابات هتلر وموسيليني. وقد أصدر ترامب مرسوماً بمنع المهاجرين القادمين من خمس دول إسلامية، مع أن بعضها لا يزال يقع تحت الوصاية الأميركية، ولولا قرار قضائي صادر من إحدى المحاكم في أميركا في وقتها لكان الأميركيون من أصول تلك الدول قد حُرِموا من العودة إلى وطنهم الجديد.
ثانياً:
هدد حكومات مشيخات مجلس التعاون الخليجي، ومارس عليهم ابتزازاً فاضحاً بالقول: إذا لم تدفعوا الأموال للحكومة الأميركية ولجيش المارينز الذي يقوم بحراستكم، فلن تبقوا في عروشكم أسبوعاً واحداً. وتم له ما طلب وحقق التهديد نتائجه ووقع مع السعودية والإمارات وقطر والكويت صفقات تجارية وعسكرية، جزء منها فقط هو المُعلن، وما خفي كان أعظم؛ وقد وصلت تلك الصفقات إلى قرابة ترليون دولار.
ثالثاً:
هدد بإلغاء اتفاقية باريس للتغيير المناخي الموقع عليها في باريس في العام 2015م، من قِبَل 195 دولة من إجمالي 197دولة، وتعذر توقيع الجمهورية العربية السورية وجمهورية نيكاراجوا بسبب أوضاع الحرب في الأولى، والأزمة السياسية في الثانية، مدعياً بأن فكرة التغيير المناخي هي (خدعة) دبرتها الحكومة الصينية وصدقها السُذَّج في حكومات الدول الغربية، بما فيها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وبالفعل ألغى الاتفاق ونقض بنود الاتفاقية العالمية، تاركاً العالم أجمع في حيرة وصدمة من تصرفات رئيس أكبر دولة في العالم.
رابعاً:
هدد بإلغاء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ والتي تضم قرابة الـ40% من التجارة العالمية والموقع عليها في العام 2015م، كما هدد بإلغاء اتفاقية (نافتا) والتي وقعت في 1 كانون الثاني/ يناير 1994م، بين كلٍّ من أميركا والمكسيك وكندا. وبالفعل نفذ تهديده بإلغاء الأولى، وفي طريقه لإلغاء الثانية.
خامساً:
روج في خطاباته كثيراً لموضوع ما أُسمي بـ”صفقة القرن”، ومضمونها البدء بتصفية القضية الفلسطينية، ونقل سـفارة الولايات المتحدة الأميركية من تل أبيب إلى القدس الشريف، واعتبارها عاصمة أبدية لدويلة يهود إسرائيل الصهيونية، على الرغم من معرفته وإدراك المستشارين المحيطين به كم سيكون ذلك القرار خطيراً وكارثياً على مستقبل العلاقات بين الحكومة الأميركية والشعوب العربية والإسلامية والعالم أجمع لما يمثله القرار من تجاوز للشرعية الدولية وخيانة للشعوب العربية والانفراد بالعداء المباشر مع شعوب المنطقة برمتها. ومع كل تلك المحاذير الجدية تم نقل السفارة في ذكرى يوم النكبة الـ70، ويخطط هو وأعوانه الصهاينة وعملاؤه من الحكام العرب لتنفيذ ما تبقى من بنود الصفقة.
سادساً:
هدد بإلغاء الاتفاقية النووية مع إيران والموقع عليها من الخمس الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي زائد واحد وهي جمهورية ألمانيا الاتحادية من جهة، وجمهورية إيران الإسلامية كطرف ثانٍ، وتم إقرارها في مجلس الأمن الدولي. وبالفعل تم نقض الاتفاق بإلغاء توقيع الولايات المتحدة الأميركية عليه، وأدخل العالم كله في مأزق خطير من ذلك القرار الأميركي المتهور، وبالذات مع حلفائها الأوروبيين (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) وبقية الدول الموقعة على الاتفاقية كروسيا الاتحادية والصين الشعبية.
سابعاً:
تبادل الرئيس دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي الديمقراطي/ كيم جون أون التهديدات والتحذيرات إلى درجة أن الاثنين هددا العالم بوضع (زر الإطلاق النووي على طاولتيهما)، مهددَين كلاهما الآخر. وبعد أشهر ساد جو من التفاهم إلى درجة أن السيد / بومبو وزير خارجية ترامب زار بيونج يانج وقابل الرئيس كيم جون أون في زيارتين متتاليتين ونتج عنهما تفاهمات بإطلاق سراح عددٍ من الأميركيين كانوا محتجزين لدى بيونج يانج، وتم تحديد موعد للقاء الزعيمين في أرض محايدة هي سنغافورة مطلع يونيو القادم، حتى أن إدارة ترامب صكت ميدالية تذكارية بهذه المناسبة مطبوعاً عليها صورة الرئيسين كيم وترامب.
وفجأة يقدم الأميركان رسالة اعتذار بعدم انعقاد اللقاء بسبب أن ترامب “زعلان” من تصريحات كوريا الديمقراطية!
الخلاصة:
أليست كل النقاط السبع المثارة أعلاه كفيلة بأن تضع شعوب العالم قاطبة في حالة خوف وهلع وعدم يقين من تهور الأشخاص الذين أنتجتهم (نُظم الديمقراطية الليبرالية) وانتخِبوا بطريقة حرة عبر صناديق الاقتراع؟ هؤلاء هم من يسيطرون على الحقيبة السحرية التي تحوي مفاتيح “أزرار السلاح النووي”.
كيف للعالم أن يطمئن لشـخص يكون بيده مصير الإنسانية جمعاء؟ وكيف يثق بإدارة محاطة بشخصيات متطرفة مهووسة تكون محيطة بذلك الرئيس الذي ينقض العهود والاتفاقيات بهذه البساطة والرعونة؟ ألا يمكن في لحظة طيش صبياني وشيطاني أن يبدأ بالحرب العالمية الثالثة المدمرة للحضارة البشرية في عصرنا الراهن، تحت وهم الاعتقاد بأن الأميركيين هم أسياد العالم وأن جميع دول المعمورة مطلوب منها أن تخضع لمشيئة وإرادة ورغبة أميركا.
ألم يفعلها من قبل الفوهرر/ أدولف هتلر وصديقه الفاشي/ بينيتو موسوليني، بشن العدوان على العالم بوهم القوة والتفوق العرقي وقتل من بني البشـر ما يتجاوز الـ50 مليون نسمة؟ ألم تفعلها الإدارة الأميركية في الحرب العالمية الثانية بزمن الرئيس/ فرانكلين روزفلت حينما أمر بقصف مدينتيِّ هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية وقتل فيهما أكثر من 300 ألف ياباني؟ وبعدها سلَّمت اليابان ورفعت راية الاستسلام.
كل تلك الشواهد والمعطيات والجرائم هي من صنع النظام “الديمقراطي الليبرالي” ولا شيء سواه!
والله أعلم مِنَّا جميعاً.