استهدف الهجوم الذي شنّته حركة “حماس” يوم 7/10/ 2023 على القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المتاخمة لحدود قطاع غزة تحقيق هدفين رئيسيين:
الهدف الأول: إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف الجنود والمستوطنين لكسر غرور الجيش الإسرائيلي المصاب بعقدة التفوق والاستعلاء، ولإثبات أن المقاومة الفلسطينية لن تستسلم، وأنها قادرة على تكبيد “إسرائيل” أثماناً باهظة إن أصرت على استمرار احتلالها الأراضي الفلسطينية.
الهدف الثاني: أسر أكبر عدد ممكن من هؤلاء بهدف مقايضتهم بالأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، والذين بلغ عددهم حتى الآن ما يزيد على 6 آلاف سجين.
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” التي لم تستغرق سوى 6 ساعات اعتيادية بأي معنى، إنما كانت الأضخم والأجرأ والأدق في تاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة، ما يفسر حجم النتائج التي أسفرت عنها، والتي فاقت أكثر التوقعات المتفائلة طموحاً.
لقد سبقتها خطة تمويه استراتيجي بالغة الدهاء نجحت في خداع أجهزة الأمن الإسرائيلية التي كثيراً ما بالغت في قدرتها على رصد ومتابعة وتحليل كل ما يجري في قطاع غزة، بما في ذلك أسماء وتحركات قادة المقاومة أنفسهم، وتمكنت من تحطيم واقتحام سياج أمني بالغ الضخامة وشديد المناعة كلف بناؤه أكثر من بليون دولار، وتم تزويده بأفضل وسائل الرصد والاستشعار من بعد وأكثرها تطوراً من الناحية التقنية، مستخدمة وسائل بسيطة، وتمكنت أخيراً من شن هجوم كاسح على المعسكرات والمستوطنات، شارك فيه ما يزيد على ألف مقاتل، واتسم بمستوى عالٍ من الاحترافية والمهارة القتالية.
ولأنها أسفرت عن قتل وجرح مئات الضباط والجنود، وهي حصيلة فاقت خسائر “إسرائيل” في حروب خاضتها في مواجهة جيوش عربية نظامية، فقد غلب عليها الطابع العسكري، رغم سقوط العديد من الضحايا المدنيين فيها، ومن ثم نجحت في تحقيق هدفها الأول، وهو إذلال الجيش الإسرائيلي وكسر أنفه وتحطيم غروره.
أما هدفها الثاني، وهو إخلاء السجون الإسرائيلية من جميع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، فما زال مؤجلاً، رغم استمرار قابليته للتحقيق، لأنه مرهون أيضاً بمدى استعداد “إسرائيل” للتوصل إلى تسوية سلمية لهذا الملف.
لم يتأخر الرد الإسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى”؛ فقد أعلن نتنياهو على الفور أن “إسرائيل” تخوض حرباً فرضت عليها، وأن لا بديل أمامها سوى الانتصار. ولأن بعض أحزاب المعارضة الإسرائيلية استجاب فوراً لنداء المشاركة في حكومة وحدة وطنية، فقد نجح في تشكيل “حكومة حرب” برئاسته قامت على الفور بإطلاق عملية عسكرية أطلقت عليها اسم “السيوف الحديدية”، وحددت لها هدفاً طموحاً للغاية، هو القضاء على حركة حماس واستئصالها نهائياً من معادلة الصراع، غير أن أكثر ما لفت الأنظار في رد الفعل الإسرائيلية أنها اتسمت بسمتين على جانب كبير من الخطورة:
الأولى: تتعلَّق بالتكييف السياسي والأيديولوجي الإسرائيلي لما جرى يوم السابع من أكتوبر؛ فللتغطية على فشله، رأى نتنياهو أن “إسرائيل” تعرضت لعمل إرهابي لا يقل خطورة عما تعرضت له الولايات المتحدة يوم 11/9/2001، وأن حماس ليست سوى منظمة إرهابية لا تقل تطرفاً عن تنظيم “داعش”، ومن ثم ينبغي للمجتمع الدولي أن يشكل في مواجهتها تحالفاً دولياً يشبه التحالف الذي تشكل في مواجهة تنظيم “داعش”، والذي تمكن في النهاية من هزيمته والقضاء عليه.
الثانية: تتعلق برد الفعل الغربي؛ فلم تكتفِ الولايات المتحدة وعدد من الدول الوازنة في أوروبا الغربية بتبني التكييف الإسرائيلي والتخفي وراء شعار “من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها” لتبرير كل ما تنوي القيام به، إنما سارعت الولايات المتحدة بالذات إلى إصدار تعليماتها لعدد من القطع الحربية البحرية شملت حاملات طائرات للتوجه قرب الشواطئ الإسرائيلية على البحر المتوسط، وأقامت في الوقت نفسه جسراً جوياً لمد “إسرائيل” بكل ما تحتاجه من سلاح، بما في ذلك الأسلحة المحرمة دولياً، ثم قام الرئيس بايدن بنفسه بزيارة “إسرائيل”، ولم يكتفِ بزيارة وزيري خارجيته ودفاعه من قبل، ما أضفى على الأزمة أبعاداً عالمية وولد انطباعاً قوياً بأن الولايات المتحدة قررت أن تديرها بنفسها.
لا شك في أن الموقف الغربي شجع “إسرائيل” الجريحة على التمادي في غضبها، وبالتالي على تجاوز كل الخطوط الحمر؛ فقد أدت عملية “السوف الحديدية”، المستمرة منذ ما يقارب 4 أسابيع، إلى تدمير أكثر من 200 ألف مسكن حتى الآن، واستشهاد ما يقارب 9 آلاف شخص، جميعهم من المدنيين، ونحو 42% منهم من الأطفال، وجرح أكثر من 20 ألفاً آخرين، وتم قطع المياه والكهرباء والاتصالات ومنع وصول الدواء والغذاء عن كل سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، بل إنّ “إسرائيل” طلبت من سكان شمال القطاع النزوح إلى جنوبه. وفي الوقت نفسه، طلبت من سكان الجنوب النزوح إلى سيناء.
هذا السلوك الهمجي سرعان ما أتى بنتائج عكسية، وكشف عمق البعد العنصري والتوسعي في النظام الإسرائيلي، مثلما كشف أيضاً ازدواجية المعايير لدى الغرب وزيف ادعاءاته بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وتأييد حق الشعوب في تقرير مصيرها؛ فقد تم التخفي وراء “حق الدول في الدفاع عن نفسها” لتبرير ما تقوم به “إسرائيل” من انتهاكات وصلت إلى حد ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، ونسي أنه لا يمكن لدولة تحتل أراضي الغير بالقوة أن تدعي أنها تمارس حق الدفاع الشرعي عن النفس.
وقد انكشف زيف هذه الادعاءات حين وافقت 120 دولة على مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو إلى “هدنة إنسانية فورية دائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية وتوفير السلع والخدمات الإنسانية للمدنيين في شتى أنحاء غزة فوراً ومن دون عوائق”، ولم تعارضه سوى 14 دولة فقط، على رأسها “إسرائيل” والولايات المتحدة بالطبع.
كما تكشفت هذه الحقيقة بصورة أكثر وضوحاً من خلال تظاهرات ضخمة شهدتها معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، تطالب بدعم نضال الشعب الفلسطيني وتندد بـ”إسرائيل”.
لم تحقق عملية “السيوف الحديدية” أياً من أهدافها المعلنة، رغم مرور ما يقارب 4 أسابيع على انطلاقها، ويجمع معظم المراقبين المحايدين على أن الأهداف التي تسعى هذه العملية لتحقيقها ليست قابلة للتحقيق أصلاً؛ فرغم المعاناة الهائلة التي يكابدها الشعب الفلسطيني بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، فإنه ما زال صامداً ومتمسكاً بأرضه حتى النهاية، وخصوصاً أنه لم يظهر حتى هذه اللحظة ما يوحي من قريب أو بعيد بأنه يلقي باللائمة على حماس أو يحملها المسؤولية عما حدث.
أما فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها حركة حماس، فما زالت صامدة في مواقعها لم تتزحزح، بل إن أغلب التقارير الموضوعية تشير إلى أنها تبدو قادرة على مواصلة الصمود لعدة أشهر أخرى، وهو ما لا يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي تحمله في ظل حالة التعبئة الكاملة التي تعيشها “إسرائيل” حالياً.
إذا أضفنا إلى ما تقدم أن محور المقاومة يدرك أن نجاح “إسرائيل” في إلحاق الهزيمة بفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة سيؤدي إلى إضعافه تماماً، وربما إخراجه كلياً من معادلات المنطقة، لتبين لنا أن الأزمة الحالية أصبحت مفتوحة على كل الاحتمالات، وبالتالي قد تؤدي إلى حرب إقليمية، وربما إلى حرب عالمية أيضاً، ولتبين لنا بوضوح أن تطور الأوضاع في المنطقة لا يتجه بالضرورة لمصلحة “إسرائيل” والولايات المتحدة.
إذا صح هذا الاستنتاج، فمعنى ذلك أن الخيارات المتاحة أمام الحكومة الإسرائيلية الحالية تبدو محدودة للغاية، وأن المقاومة الفلسطينية المسلحة هي من يمسك حالياً بزمام المبادرة، فتمادي هذه الحكومة في الإصرار على الانتقام من المدنيين وإلحاق الأذى بهم لن يحل لها أي مشكلة، وقد يؤدي إلى تأليب الرأي العام العالمي ضدها بأكثر مما هو عليه الآن.
كما أن إصرارها على تجاهل مصير الأسرى الذين تحتجزهم فصائل المقاومة الفلسطينية قد يؤدي إلى توليد مزيد من الضغوط الداخلية عليها، ما قد يتسبب بتصدعها وانهيارها قبل أن تتمكن من حسم العركة.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أن التوصل إلى حلول وسط لمشكلة الأسرى والمحتجزين سيصب في النهاية لمصلحة حماس وبقية فصائل المقاومة، لأصبح من السهل علينا أن ندرك أنه لم يعد أمام الحكومة الإسرائيلية الراهنة خيارات عقلانية سوى البحث الجاد عن حل حقيقي لجذور المشكلة بالموافقة على إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي المحتلة عام 1967 وعلى تسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للقرار 149 لسنة 1948.
ولأن منسوب العقلانية في حكومة “إسرائيل” الحالية يبدو ضئيلاً إلى حد العدم، فإنني أظن أنه لم يعد أمامنا سوى توقع الأسوأ قبل أن تبدأ الأمور في التحسن. وفي جميع الأحوال، أعتقد أن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط منذ الآن فصاعداً لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه قبل يوم السابع من أكتوبر 2023.
* نقلا عن : الميادين نت