عقدت لجنة المصالحة والحل السياسي أمس أول اجتماعاتها في صنعاء ، أفصح رئيس اللجنة عن المسارات العملية والتنفيذية في عملها ومهامها ، والتي ستبدأ بتكثيف التواصلات التي تهدف إلى إعادة من هم في الخارج إلى أراضي الوطن ، ومن هم في غير الصواب إلى جادته ، وكل المسارات هي بمثابة دعوة للجميع بالعودة إلى أحضان الوطن.
سابقا رسم الاغتراب السياسي والعزلة التامة للأحزاب عن المجتمع خارطة خاطئة وطائشة من المواقف السياسية لتلك التنظيمات والنخب التي تاهت في الطريق وذهبت بعيدا عن شعبها ويمنها ، ذلك أن القطيعة الكاملة التي عاشتها لسنوات قبيل حركة التغيير العام2011م حالت بها عن الرؤية الصحيحة ، فيما لم يؤثر الوصول إلى سدة الحكم لتلك الاحزاب ولا تبدُل مواقع من كانت مستفردة به سابقا ، بل تحولت جميعها إلى ما يشبه الفاشيات البوليسية والقمعية ، وأبقت برامجها الحزبية محكومة بأفكار مكبّلة ومقيّدة بقوالبها العنصرية والنخبوية الانتهازية ما زاد من عزلتها عن الواقع والحياة والمجتمع والشعب ، وزاد من ارتهانها للخارج كلياً ، وهنا فتحت الأبواب على مصراعيها للتدخلات الخارجية والوصاية الأممية والدولية والإقليمية.
ارتماء تلك الأحزاب والنخب السياسية في أحضان العدوان وارتكاب جريمة الخيانة العظمى للبلاد كان نتيجةً لتلك القطيعة التي عاشتها هذه الأحزاب والنُخب والشخوص مع الشعب اليمني وقضاياه ومصالحه ، وانعكاساً للمرتكزات التي قامت عليها حياة تلك الأحزاب مقتصرة على حجم علاقاتها باللجنة الخاصة السعودية ، ولجان أخرى قطرية وإماراتية وتركية، حتى أصبح نظام الحكم التوافقي الذي مثّله الفار هادي خلاصة الارتهان السياسي والعسكري والأمني ، ومظهراً بجحاً من مظاهر اختلال واعتلال السيادة ، نتج عن ذلك تدخل خطير للخارج في تكوين المشهد السياسي والأمني والعسكري وحتى الإداري بتغيراته وتطوارته الذي كان يتطلب معالجات عاجلة وضرورية ورؤية استراتيجية وطنية جامعة ترتكز على المصالحة والتوافق والشراكة بين الجميع وبدون أي تدخلات خارجية أو وصاية دولية أو أممية.
وما استجد في موقف تلك الأحزاب مع بدء العدوان لم يكن بعيداً عن السياق ذاته ، بل كان كاشفاً للحال الهزيل والكسيح الذي وصلت إليه النخبة السياسية وحالة الاعتلال والاختلال في الرأي والموقف وقيم الانتماء والمواطنة لديها ، غير أن ما حدث خلال الأشهر الأخيرة في بعض المحافظات الجنوبية والشرقية من متاهات واحتراب متشظٍ ومتدحرج بلا قضايا ولا عناوين حتى أن أياً من الأطراف لم يعرف لماذا يقاتل الطرف الآخر ، كان من باب الحقيقة المرة التي تواجهها التنظيمات والأحزاب والشخوص والفصائل تلك ، فالاحتراب الذي انفجر بين تلك الأحزاب والفصائل وكلها انخرطت في اصطفافات الخيانة والعدوان على اليمن كشفت الحقيقة التي حاولوا إخفاءها طيلة خمسة أعوام.
اليمنيون اليوم بين خياري المصالحة الشاملة الكاملة المرتكزة على المشتركات من المصالح والقيم والمبادئ والهوية الدينية والوطنية والتاريخ واللغة والوطن الواحد ، ووشائج الأصول والأعراف والأنساب والأعراق والأصهار ، وثقافة المجتمع الواحد ، أو التشظي إلى جماعات متقاتلة ومتناحرة تقتل بعضها بعضاً بكل بشاعة وهمجية ، وفي هذا فساد كبير لن يصلح معه حال أي طرف ولن يستقيم أي حال للجميع.
وما نشاهده اليوم في المحافظات الجنوبية والشرقية من احتراب دامٍ بين أطراف هي في الأصل انخرطت في اصطفافات الخيانة مع العدو الأجنبي الذي غزا البلاد وقتل العباد ، لهو تجسيد لما سيكون عليه الحال في اليمن بشكل أعم ، فإن تحول الجميع إلى أدوات وبيادق خيانية تنفذ أجندات الغزاة ومشاريعهم سيُقسمون إلى مجاميع من المرتزقة ليقاتلوا بعضهم بعضاً ، فكما هم يحاولون اقتسام الأرض والثروة هم يقتسمون الإنسان اليمني كغنيمة حرب أيضاً ، يرون بأن عليه أن يقاتل فيقتل ضمن هذا الفريق وضد الفريق الآخر وتلك هي المأساة في المحافظات الجنوبية والشرقية.
لا يختلف النظامان السعودي والإماراتي في الأصل المتعلق بإبقاء اليمن محتلاً واليمنيين مُستعبَدين ، وإن اختلفوا ففي مقدار حصة كل منهما وما سيأخذه ، يتفقان أيضاً في ضرورة إبقاء الصراع بينهما بالدماء اليمنية ، وعلى الأرض اليمنية ، ليستمرا هما في نهب الثروات واستمرار البسط والسيطرة والاحتلال ، وما أسوأ ما يرتكبه أولئك المخدوعون الذين يحتربون ويقتلون بعضهم بعضاً لحساب أطراف تحالف العدوان وبحساباتهم ، فيطحنون أنفسهم في حروب بلا معنى ولا هدف ولا مقابل إلّا أنهم تورطوا في خيانة أهلهم فوجدوا أنفسهم مُستعبَدين فاقدين لكل شيء وبدون شيء ، مأزق لا مخرج منه إلا بعودة جادة وصادقة نحو الوطن واليمن.
ولعل دعوة المجلس السياسي الأعلى إلى المصالحة وتوقيت تشكيل اللجنة جاءت في لحظة هامة ودقيقة ، فالحالة المزرية التي يعيشها الكثير من المخدوعين تحتم على صنعاء – وهي أم اليمن والتعبير الجامع لكل اليمنيين والخلاصة الخاصة للهوية اليمنية- أن تفتح أحضانها للجميع لينقذوا أنفسهم من سواد العبودية ونير الاستعباد ولتمكنهم من امتلاك قرارهم وحقهم في الاختيار قولاً وفعلاً وموقفاً وضمن يمن واحد لا يفرق بين أحد.