كنت قد كتبت قبل يومين فقط، عن هاجس الافتقاد الموجع للأشخاص من أصدقاء وزملاء أعزاء والاستعداد لمثل تلك الخسارات بصورة ما، ربما تتمثل في الاحتفاظ بصورهم وذكرياتهم..
ولم يمض كثيراً فها نحن مجدداً نخسر زميلاً عزيزاً وصديقاً غالياً..
إنه الشاعر والناقد الأدبي والصحفي القدير الأستاذ محمد يحيى المنصور، رحمة الله تغشاه..
كان شاعراً تسعينياً ملهماً وناقداً حصيفاً في الكتابة الحديثة وأحد رواد ومنظري قصيدة النثر في اليمن.. وكان دقيقاً في تنظيره وحذراً جداً في تعاطيه مع الكتابة الجديدة، حد أنه تراجع وتردد كثيراً قبل أن يعلن عن حضوره الفعلي في المشهد الأدبي والإبداعي، عبر إصداره الشعرى الأول (سيرة الأشياء) أواخر العقد التسعيني، ذلك العقد الذي شهد حراكاً ثقافياً وإبداعياً، لا يمكن بأي حال مقارنته بغيره من الأجيال العقدية في مجال الكتابة الشعرية والأدبية..
وذلك بالطبع بفعل وفاعلية أدباء وشعراء مبدعين متميزين بكونهم امتلكوا نواصي الوعي بتجاربهم أولاً ثم بالكتابة الحديثة، واختطوا بالمبادرة الفعلية والتفاعلية أثر جيل كان همه الأول التعاطي مع الإبداع في أعلى درجاته وأرقى وأحدث معطياته ومخرجاته، وبما يتماشى مع سيرة ومسيرة الكتابة الحديثة والأحدث على المستويين العربي والعالمي.. وإثبات الحضور الدائم بل والمنافس في ميادين هذه العطاءات الإنسانية الثرة..
وقد كان الزميل والصديق المنصور أحد أهم تلك النماذج المعطاءة إنتاجاً ومسايرة ونقداً وتنظيراً..
ذكريات كثيرة لي شخصياً مع محمد المنصور، سواء في مسارات واتجاهات الكتابة والشعر والأدب والعمل النقابي في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، أو في دروب واعتراكات العمل الصحفي والنقابي أيضاً عبر مؤسسة الثورة للصحافة والطباعة والنشر ونقابة الصحفيين اليمنيين، على الرغم من وقوف كل منا في اتجاه نقابي وحزبي يتعارض مع الآخر، إلا أن نقاط الالتقاء التي جمعتنا كانت أهم وأكبر بكثير من تلك الخصومات الحزبية والنقابية المفتعلة والمؤقتة..
وكان آخر ما يجمعنا كزميلين أو بالأصح كرئيس ومرؤوس، تلك الأزمات التي كان يفتعلها بعض المتسلقين والنفعيين ليصلوا إلى مباغيهم الباغية على حساب كل ما هو جميل وحقيقي وواقعي..
وفي حين كان محمد رحمة الله عليه رئيسي في مؤسسة الثورة، كنت أنا نائب رئيسه في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، تلك القلعة الإبداعية والوطنية الكبرى والشامخة التي كان الحفاظ على بقائها وشموخها هماً من أكبر همومه وما تزال كذلك بالنسبة لي..
في حقيقة المحبة والامتنان، فقد خاض الزميل المرحوم بسببي معارك خفية أثرت عليه وعلى وظيفته كثيراً كرئيس (سابق) لمجلس إدارة مؤسسة الثورة التي كنت أشغل فيها نائب مدير التحرير عند تعيينه، ورغم إزاحتي من ذلك المكان بفعل خارج عن سيطرته بالطبع، إلا أنني خضت لأجله من جهتي في ذلك السياق، معارك مماثلة لأحافظ على ذلك النسق الأنيق في صداقتنا وزمالتنا.. لنلتقي في النهاية عند نقطة كان لا بد فيها من اقتراف التنازلات والتضحيات..
ولأننا بالطبع لم نكن ملائكة ولن نكون شياطين، فقد كانت لنا هناتنا ومشاكساتنا التي كثيراً وسريعاً ما كانت تتحول إلى عناوين للمحبة والتندر والتذاكر بكثير من الزمالة والوفاء والولاء أولاً وأخيراً للكلمة والإبداع والإقرار بالعطاءات الحقيقية، ما دامت تصب في مصب التمثيل الكلي لمشهد إبداعي ومهني، فاخرنا وسنظل نفاخر به ما حيينا، وحتى من بعد..
رحمك الله أيها الزميل الصديق.. هاهي الأشياء فعلاً تسرد سيرتها وستظل كذلك إلى ما شئنا وشاء الله.
وصادق عزائي حقاً لأهلك ولكل أصدقائك ومحبيك وللأدب والصحافة بل وللكتابة عموماً ولي أيضاً ولكل زملاء المهنة والحرف.