في محراب عطائهم ومقامهم وقداستهم تنحني الهامات والكلمات والحروف وتخجل المفردات عن التعبير عنهم وعن تضحياتهم ومواقفهم وإيمانهم وصدقهم ، عظماء إلى أبعد مدى إلى مستوى أنهم وصلوا إلى مرتبة الأنبياء ويشهد على حقيقة ذلك قول الله تعالى { الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا }، إنهم الشهداء الأبرار الذين جسدوا ثقافة القرآن في واقعهم قولاً وعملاً وشقوا طريقهم نحو الله بأعمال إيمانية رفيعة المستوى ومواقف جهادية بطولية أذهلت الوجود وبذل وسخاء بلغ إلى درجة العطاء بالدم والروح والنفس في سبيل الله وحده والمستضعفين من عباده ونصرة دينه فاستحقوا أن يتخذهم الله شهداء أحياء لا موت في مشوار حياتهم ولا فناء.
الذكرى السنوية للشهيد هذه الذكرى العظيمة ينبغي علينا أن نجعل منها محطة لاستلهام الدروس والعبر من عظمة الشهداء ومواقفهم وعطائهم وصدقهم وإيمانهم وكيف كانوا وماذا فعلوا حتى استحقوا وسام الشهادة وصاروا في مصاف الأنبياء والصالحين وماذا حققوا لنا وماذا حققوا لأنفسهم، فالشهداء حققوا الكثير والكثير من الإنجازات والانتصارات على أكثر من صعيد.. أولاً، حققوا لأنفسهم الربح الذي لا خسارة فيه والحياة الخالدة التي لا موت فيها وحصلوا على رضوان الله وجنته ونصروا الإسلام والمسلمين، ثانياً جعلوا من أرواحهم ودماؤهم حصناً منيعاً للأمة من ظلم الطواغيت والمستكبرين وصنعوا الكثير من الانتصارات العسكرية الميدانية في مواجهة الأعداء وأثمرت دماؤهم ثماراً مباركة في شتى المجالات وسط المجتمع الذي ينتمون إليه والأمة التي تنتمي اليهم ما دامت على نهجهم وقدموا شهادة عظيمة على أن الدين الإسلامي يملك مخزوناً بشرياً من العظماء الأقوياء في إيمانهم وفي مواقفهم وفي عطائهم وفي ثقتهم بالله وصدقهم معه.
الشهداء العظماء قبل أن يلتحقوا بعالم الخلود والحياة لأبدية عالم الشهداء كان واقعهم الإيماني والعملي قائماً على الجهاد في سبيل الله فكانوا وفق ما وصفهم الله تعالى بقوله (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وبعد أن أبلوا بلاء حسناً وسطروا أروع ملاحم البطولة والتضحية اصطفاهم الله شهداء ودخلوا في دائرة الاصطفاء ضمن قول الله تعالى (ويتخذ منكم شهداء)، ومن خلال هذه الآية لوحدها (ويتخذ منكم شهداء) نجد أن الله تعالى حين قال: (يتخذ) هو يختار ويصطفي منكم، أي من المجتمع المؤمن المجاهد الصامد الصابر يتخذ شهداء، وهذا تشريف وتكريم للمجاهدين في سبيل الله للأمة المجاهدة أن الله كرمها واتخذ منها شهداء من هذه الأسرة أو تلك وعندما يكون الله هو الذي اختار فهذا أمر عظيم يدعو للعزة ويستدعي الشكر لله ولا يزال باب رحمة الله مفتوحاً لتقديم المزيد من التضحيات ويلج منه الكثير من الشهداء.
الشهداء العظماء هم وحدهم من لا يمكن السؤال عن أعمارهم لأن أعمار الشهداء لا تقاس بالزمان والسنوات والشهور والأيام والليالي فهم وصلوا إلى عالم الحياة الأبدية إلى درجة أن الله تعالى نهانا عن أن نقول عنهم أموات حين قال سبحانه (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) لا تشعرون لأنهم رحلوا من الدنيا إلى عالم الخلود غادروكم بأجسادهم لكن أرواحهم لا تزال حية عند بارئها فلا تقولوا عنهم إنهم أموات حتى مجرد القول باللسان لأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون في عالم محفوف بالرعاية الإلهية ، عالم لا وجود فيه للموت والفناء.. عالم كله حياة.