المقاومة البطولية التي تهزم العدوان على القدس والإجرام في غزة، تُعرّي "إسرائيل" من غطاء الأوهام والأساطير، لكنّها تكشف تَحلُّل وجود الكيان وعودة "الدولة" إلى زمن الهاغانا.
...
ليست أزمة نتنياهو السياسية والقانونية ما دفعه إلى البطش العاري في الشيخ جرّاح والقدس، بل ما دفعه وقيادة "إسرائيل" وجنرالاتها إلى الهروب إلى الأمام في فلسطين المحتلّة وغزّة، هو أزمة تفسّخ وجود الكيان المصطنَع و"دولة" الاستعمار الاستيطاني.
مظاهر فساد الطبقة السياسية وتناحرها على السلطة هي تحصيلٌ حاصلٌ للتحوّل عن دور "الدولة" الصهيونية "الديمقراطية" التي أنشأتها عليه منظومة "المجتمع الدولي" المتحوّلة بدورها إثر الحرب العالمية، من الاستعمار المباشر القديم إلى استعمار بالوكالة والتبعية.
القاعدة العسكرية الغربية الناشئة باحتلال فلسطين فقدت قدرتها الحربية على فرض التبعية الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة والدول الغربية، فالبلدان الملتحقَة بالأسرلَة (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب والبوسنة) انصاعت بغير الحرب، خلافاً لدول موجة "التطبيع" الأولى، نتيجة العجز الحربي.
لم تفقد قدرتها على فرض التبعية بالحرب فحسب، بل فقدت أيضاً قدرتها على العدوان الحربي ضد أيّ دولة مستعدّة للقتال في صدّ العدوان، وعلى أية جبهة في محور المقاومة، حتى لو كانت مخضّبة بحروب الوكالة ومآسي الحصار وجرائم العقوبات، كاليمن وسوريا.
لا تستطيع "إسرائيل" التفوّق على غزة، التي انتصرت في المواجهة الميدانية على "جيش" الاحتلال في عدوان العام 2014. لذا، تسهّل لها أميركا فرصة التنفيس عن عجزها الحربي في قتل الأطفال والمدنيين، وتدمير البيوت والمنشآت والأراضي الزراعية، وارتكاب شتّى الجرائم ضد الإنسانية، كما يقول جون دوغارد؛ مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى الأراضي الفلسطينية.
مقاومة غزّة البطولية أكثر قدرة على الحرب في الميدان، وفي المواجهة الصاروخية والمسيّرات التي طوّرتها المقاومة لردع العدوان، وفرض الحصار الجوّي على المطارات، وإصابة الأهداف البعيدة والقريبة، استهزاء بالقبة الحديدية التي يتخلّى عنها المدرّبون الأميركيون، وينسحب 120 منهم، إعراباً عن الفشل.
التحوّل الاستراتيجي التاريخي للمقاومة المسلّحة يتعدّى الردع العسكري وتعديل قواعد الاشتباك، إلى إرساء ملامح استراتيجيّة تكامليّة بين المقاومة المسلّحة والمقاومة الشعبية في فلسطين، التي تنتفض في مواجهة الاحتلال، استناداً إلى حماية المقاومة المسلّحة.
الشباب الفلسطيني الثائر في الشيخ جرّاح والقدس وكلّ فلسطين يواجه بالصدور والابتسامة الآلة العسكرية وقطعان المستوطنين، مطمئناً إلى الحماية المسلّحة التي يستغيث بها: "يا غزّة يلا، منشان الله"، لكن المقاومة الشعبية لم تهبّ وتتوسّع إلى الضفة الغربية ومدن الأراضي المحتلة قبل 67، وإلى أميركا وأوروبا وأصقاع العالم، نتيجة "خصوصيات" متفرقة وردود فعل على الجزئيات، بل نتيجة معنويات عالية وثقة بأفق المقاومة؛ مشعل ضوء التحرّر من الاحتلال.
محرّك المقاومة الشعبية نحو إزالة الاحتلال يحفّزه فقدان "إسرائيل" القدرة على الحرب ضد محور المقاومة في المنطقة وفلسطين، وفقدانها أيضاً سلاح "الدولة الديمقراطية" الذي غطّت به الدول الغربية والمنظومة الدولية أوهام تعايش الفلسطينيين في "دولة" استعمار استيطاني.
أحزاب الأممية الثانية (الاشتراكية) التي فصّلت ثوب الصهيونية وجمّلته بخشاخيش التسامح وطقوس التدجين، تفقد تأثيرها التضليلي لدعم "إسرائيل"، والذي يحتلّه اليمين العنصري وفاشية الإسلاموفوبيا والهمجية الفاقعة التي تلتحف بها "إسرائيل".
الحزب الديمقراطي الأميركي الذي حصّن القاعدة العسكرية الأميركية في فلسطين المحتلة بإيديولوجيا "العالم الحر"، تضعضعه شروخ النظام العنصري الأميركي التي يصوّب على توسيعها الأميركيون الأفارقة واللاتينيون والعرب وبلدان الجنوب الأخرى في معركة ضد منظومة العنصرية الأميركية والإسرائيلية على السواء، وفي داخل الحزب الديمقراطي ومجلسي النواب والشيوخ (بيرني ساندرز، بيتي ماكلوم، ألكسندرا أوكاسيو كورتيز، أيانا بريسلي، إلهان عمر، رشيدة طليب... ما مجموعه 120 نائباً).
كما أن ترامب الذي سعى إلى نفخ فقاعة الصابون في توسيع الأسرلَة إلى الإمارات والمشايخ والأنظمة الفاسدة، هو رمز القشّة التي قصمت ظهر البعير الإسرائيلي في تحوّله إلى مجرّد شركة تجارية نيوليبرالية تنزع من أيديها وأيادي الغرب سلاح الصهيونية "الديمقراطية" المتحوّلة إلى خرافة الإيديولوجيا الإبراهيمية.
تحوّل "إسرائيل" إلى ميليشيا استيطانية وشركة تجارية، والتحوّل الاستراتيجي التاريخي للمقاومة، يطويان أوهام "صفقة القرن"، ويطويان أيضاً صفحة أحلام المنظومة الدولية والعربية بما يسمى "حل الدولتين"، للتعايش الفلسطيني مع الاغتصاب والاحتلال.
تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الذي يصف "إسرائيل" بنظام "الأبارتايد"، يشير في توصياته إلى إعادة النظر في مقاربة المحافظة على الاحتلال والنظام العنصري. وبموازاة ذلك، يتناغم تقرير منظمة "كارنيغي" مع التوصيات في وضع الإصبع على الجرح.
الانتصار التاريخي للمقاومة يشطب بالدماء والتضحيات ما بذلته الدول وأجهزة الاستخبارات والمؤسسات الدولية من أجل إغراق الشعوب في حروب الوكالة والتفتيت والفتن الطائفية والعرقية... بجرّة قلم واحدة، تعود فلسطين قبلة الشعوب العربية والإسلامية ودول الجنوب وأحرار العالم.
* نقلا عن : الميادين نت