يمكن أن يقال إننا أمام مرحلة جديدة، هي متغايرة لكنها لا تسير وفق أحلامنا ولا وفق تطلعاتنا بل تكاد تكون صادمة ومعيقة أكثر منها منسابة أَو ساربة في مجرى التطلعات الوطنية، وتبعاً لها لا بُـدَّ من الوعي بها حتى نضع فرضياتها المحتملة، فالوعي بها هو الوعي بالقدرة وبالسيطرة على مقاليد الزمن الذي يسير وفق قراءات واستراتيجيات تريد له أن يكون فاعلاً ومحقّقاً لمصالحها، وتلك الاستراتيجيات وضعت من قبل مختصين في العلوم الإنسانية المختلفة، وهو الأمر الذي يفرض علينا ضرورة التعاطي معه بقدرة ذهنية تفوقه، وتقفز على شروط “الأنا” المظلل في الصناعة والإبداع والابتكار.
لاشك أن الحرب تركت ظلالاً قاتماً، وعملت على الإخلال بحركة التوازنات في المجتمع، وهي غير واضحة المعالم كون المجتمع اليوم تتنازعه ثلاثة أبعاد نفسية تنحصر في الخوف، والتربص، والمداهنة، ولذلك لا يمكن الوثوق بالظاهر وإن بدا شكله واضح المعالم، فالتناقض في المجتمع اليمني قديم، ومحاولة التآلف فيه والتناغم تحتاج زمناً غير قصير على أن يمتاز ذلك الزمن بالاستقرار والرفاه، وبحيث ترتبط الفئات الاجتماعية بمصالح مع السلطة، ومثل ذلك غير متحقّق في مثل الظروف التي تمر بها اليمن اليوم، كما أن الشرخ والهوة اتسعت بالقدر الذي لا يمكن ردم الصدع فيه، ولذلك فكل المحاولات لردم الصدع ستكون فاشلة؛ فالعدوّ الذي نواجهه ليس محدودًا ولا قليلًا، بل يملك قدرات مهولة.. مهنية ومادية وتقنية ومعرفية وفكرية، وأمام مثل ذلك تكون نسب النجاح ضئيلة في السيطرة والردم، مع قناعتنا وثقتنا المطلقة في تدابير الله لكن تدابير الله تسير وفق قانون فطري وهو يقول: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ”.
تبدو المرحلة اليوم أخطر منها بالأمس، وَإذَا استغرقتنا مشاعر الانتصار؛ فلنعلم أن عوامل الانكسار قد تسللت إلى واقعنا، ولعل الواقع يبعث إشاراته اليوم ولذلك من الحكمة الوقوف أمام الواقع الاجتماعي والسياسي وتحريكه من خلال:
– فكرة وجود صيغة توافق وطني وشراكة بين مختلف القوى المناهضة للعدوان معلنة وواضحة.
– وبالبحث عن صيغة دستورية للحال الجديد وتشكيل حكومة وطنية مكونة من كُـلّ القوى المناهضة للعدوان.
– معالجة آثار الصراعات وترضية النفوس وإرسال رسائل تطمين لا تنفير.
– ترشيد الخطاب السياسي والإعلامي على المستوى الوطني ليكون خطاباً جامعاً وغير مستفز.
فالوضع الاجتماعي مع تداعيات الأحداث والحرب والصراعات يعيش مرحلة غليان وتعمل الآلة النفسية والإعلامية على تنمية مشاعر الغضب وهناك نشاط محموم يسعى إلى إيقاظ مشاعر التنافر والغضب ويعمل على تفكيك عرى المجتمع وتعويم الهُــوِيَّة واستغلال كُـلّ ذلك سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا، وقد يترك ذلك أثراً كَبيراً على النسيج الاجتماعي والوطني، سواء اليوم أَو في المستقبل المنظور؛ ولذلك فالترميم يبدأ من بوابة الحوار مع المجتمع وقواه الفاعلة، حتى تشعر بوجودها وقيمتها في معادلة الحياة وبذلك نقطع الخطوط التي ينفذ منها العدوّ أَو نحد منها.
ومن أجل بناء معرفة صحيحة بالواقع السياسي كما ينبغي أن يكون، نطرح مشكلة المعرفة ذاتها، فصورة الواقع البصرية لا تقدم لنا الحقيقة المطلقة ولا تقدم المعرفة التي ينبغي، فحقيقة المعرفة أَو نموذجها الأكمل لا نحصل عليه بالحواس، بل بالعقل، وبالترقي في المعرفة العقلية، فمن يشاهد أكثر ما يمكن من أنواع التفاعلات، ستكون معرفته بالواقع أفضل، أما إذَا كان عالماً متمرساً؛ فمعرفتُه ستكونُ أكملَ، ومع ذلك تبقى حقيقة الواقع شيئاً أكمل من كُـلّ الظواهر، فالحقيقة هي النموذج والمثال الذي يعمل على تمتين السياج أَو يمنع من وصول الظواهر القاتلة للمستقبل إلى مراكز مهمة.
فالظواهر التي تأتي من باب حسن النية، ومن باب كبوة الجواد تركت ثقوباً في جدار الصمود وعلى مستويات الواقع المختلفة، الواقع الشبح، والواقع الظل، والواقع المحسوس، والواقع المثال…، فبدءًا من ظاهرة “الزبادي” وُصُـولاً إلى ظاهرة “طلاق المرتبات”، تكاثرت الثقوب على جدار الصمود، وقد سمحت تلك الثقوب للفئران أن تنفذ منها وتعمل على تفكيك صورة الواقع المثال بتآزر مع الواقع المحسوس، ومثل ذلك يستنفر المعرفة إن أردنا صناعة واقع يستجيب لمشروعنا المناهض للعدوان وللعولمة، والمعرفة تتطلب حركة تعيد السياقات إلى مكانها الطبيعي وتحدث تبدلاً في الواقع المحسوس والواقع المثال، فالسكوت على مثل هذه الظواهر ليس من الحكمة في عالم يتربص بنا الدوائر.