أصيب العقل العربي أولا ثم العقل المسلم في كثير من مراحل حياته بحالة من الجمود المتفاوت حسب كل مرحلة فمن الشلل التام الذي جعله يعبد الأصنام الحجرية والخشبية وغيرها مما يصنعه بيديه ويشتريه بماله ويعلم أنها لا تضره ولا تنفعه، إلى التبلد الذي سهل استعباده للأصنام البشرية من ولاة أمره الطواغيت الظالمين، وحتى التغييب الذي أخضعه لأصنام معنوية صنعها في وعيه حكامه المحكومون من أعدائه، وفي كل مرحلة زمنية للعقل العربي وعند كل وجه من أوجه الجمود التي عاشها، كانت هناك الكثير من المحاولات الجادة والجاهدة لاستنهاضه وتحريكه واستعادة قدرته على التفكير، محاولات حافلات بالآيات والحقائق والأعلام و بذلت فيها التضحيات الجسام، ولكنها كلها قوبلت بالخذلان و ختمت بخسران العقل العربي لفرصة تلو فرصة للتحرر من قيود الجمود وأغلال الإضلال .
إن عجز العقل العربي والمسلم في التفريق بين الغايات والوسائل و التمييز بين متطلبات كل منهما كانت ومازالت أكبر مشكلاته على الإطلاق وأعصاها على الحل، فعندما فكر العربي الأول في الأصنام كوسيلة تعبديه تقربه من الله لم يلبث طويلا حتى حول تلك الوسيلة إلى غاية منصرفا إلى عبادتها من دون الله، وعندما اعتقد العربي المسلم أن طاعة الحاكم والسلطان أو المذهب وسيلة لحماية الدين والحفاظ عليه سرعان ما أصبحت حماية السلطان والحاكم والمذهب غاية عنده وطاعة الدين وسيلته في ذلك، و مهما بلغ الخطأ في المذهب أو ظهر الحق والصواب في غيره فلا مجال للتخلي عنه، ومهما بلغ السلطان من العتو والفجور والفسوق والظلم والطغيان والمخالفة بل والمنازعة للدين وقيمه ومبادئه لأن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن!! فكان بقاؤه غاية اسمى باعتباره الطريقة المضمونة الأكثر فاعلية في إقامة واستقرار شؤون الحياة فيما الدين طريقة ثانوية محتملة النتائج !!!! ولذلك نرى الأغلبية تقف إلى جانب السلاطين والحكام وتصطف معهم في مواجهة من ينازعهم حتى ولو كان الدين الحق .
ويبدو أن التقدم العلمي والتطور المعرفي الإنساني وما صاحبهما من ثورة تكنولوجية مؤخرا لم تحل بين العقل العربي الحديث وبين موروثه الاستشكالي بين الوسائل والغايات فمازال عاجزا عن التفريق بينهما وغير قادر على التمييز بين ما تفرضه الغايات من الثبات والإصرار والصلابة في التمسك بها وبين ما تتيحه الوسائل من فرص ومرونة في إمكانية تعديلها وتطويرها وتحديثها بل وحتى التخلي عنها، فهاهو بعد أن اطلع على نظم الحكم في العالم وطرق الوصول إلى السلطة وعرف منها الجمهورية والمدنية والديموقراطية والتي تعتبر في أساسها ومضمونها وسائل لإدامة الاستقرار ولإقامة العدل والمساواة وحماية الحقوق والحريات ، ولكنه رغم ذلك ما فتئ ينظر إليها باعتبارها غايات لا يمكن التخلي عنها أو القبول بمجرد التفكير في وجود بدائل لها أو حتى النقاش في سلبياتها وعدم ملاءمتها في بعض الظروف ، بل بلغ الأمر بالبعض إلى تقديسها كثوابت أقدس من ثوابت الدين واعتبار مبادئها أصوب ونظرياتها أصلح من كل القيم والشرائع، لتتجلى حالة الجمود المتوارثة في العقل العربي من خلال غيابه التام والمتطرف.