تحدثنا في السابق عن دروس السيد القائد التنويرية المتضمنة شرحاً لوصية الإمام علي -عليه السلام-، والتي نشعر معها بروحيةٍ خَاصَّةٍ تسبحُ بنا في عالَمٍ لا متناهٍ من النور الذي يتغلغل في أفئدتنا المثقلة بثقافاتٍ مغلوطة راكمتها السنوات الماضية من أعمارنا، فندرك كم نحن بحاجةٍ لمراجعة ما مضى ونسقطها مع الوضع الراهن اليوم، ونقارنها، بل ونقاربها بمنهجية الإمام علي (ع)، حتى نستطيع تغيير واقعنا باستلهام سبل الخلاص والفلاح لأخرانا، واستحضار قيم الحياة الصالحة لدنيانا، من هكذا منهج، كُـلّ كلمةٍ منه هي إشراقة أمل للمستقبل، وبصيرة ضوء للتغيير، ومفتاح لنهوض وتقدم أُمَّـة الإسلام.
لقد أشار السيد القائد إلى أن “الإنسان إذَا نظر في الصالح الحقيقي لنفسه، بحساب ما يرغب فيه، بحساب الماديات، بحساب الشهوات، بحساب النعيم”؛ هو بذلك يشير إلى النقطة التي تميز فيها منهج الإمام علي (ع) القائم على القيم والمبادئ، كنقطة محورية وأَسَاسية؛ لأَنَّ كُـلّ الأشياء التي تحدث اليوم؛ بسَببِ طول الأمل والتكالب على الدنيا والمصالح المدمّـرة، والتي تؤدي إلى الصراعات وإلى عالم غارقٍ في الأنانية ومستغرق في الأزمات، فكأنه يعالجها بالبصيرة والأخذ بأسباب ضمانة المستقبل.
ومعنى البصيرة في إطار التقوى في منهج الإمام علي (ع)، أن تسلك الطريق المستوي الواضح الذي يجنبك السقوط في المهاوي، وفق منهج استراتيجي شامل، يعالج المشكلات من جذورها، بعيد المدى في النظر في النهج الذي تسير عليه، بحيث لا تنظر إلى المغانم والمكاسب الجزئية، كما يفعل بعض الساسة، مثلاً السياسي اليوم هو رجل تكتيكي وإن كان صالحاً، لكنه في عمومه هو تكتيكي يفكر بالأرباح الآنية، وَإذَا كان صالحاً يفكر بحل المشكلات الحالية أَو الآنية، ولا يفكر بالحلول بعيدة المدى، وبالتالي يفقد المستقبل، وهذا أكّـد عليه السيد بالقول: “من المهم عند النظر في الأمور النظر في عواقبها وفق أسس صحيحة”.
لذلك فَـإنَّ مكاسب العمل التكتيكي لا ربح فيها، وإنما خسارة؛ لأَنَّ الربح الحقيقي هو الربح المستقبلي الاستراتيجي أَو الربح بعيد المدى؛ لذلك رؤية الإمام علي (ع) تؤكّـد أن الخفض فِي الطَّلَبِ، والإجمال في المكسب، عملية بناء متكاملة بعيدة المدى، فلا تستعجلوا في حصد المكاسب التي تبحثون عنها، فأن تخون وتظلم وترتكب المحرمات الآن ثم تتوب وتعدل بعد مدة من الزمن هذه رؤية غير صحيحة، إذَا أردت السعادة لا بُـدَّ أن تعمل بأسبابها، ومنذُ الوهلة الأولى، فهذه الخطط الآنية والوقتية والتكتيكية التي لا تملك نظرة بعيدة المدى ولا رؤية استراتيجية، تؤسس للفساد والإفساد والظلم والجور؛ لأَنَّها لا تفكر في المخاطر التي يمكن أن تواجهك والمجتمع ككل.
أكثر المخاطر الكبيرة اليوم، هي نتيجة لأعمال وأفعال البشر السابقة، لم يعالجوها أَو تعمدوا تركها وذهبوا وراء منافعهم الجزئية الخَاصَّة؛ إذ تصوروا بأنها لن تصل إليهم، لكنها وصلت؛ لذا فالرؤية الاستراتيجية التي نفهمها من الإمام علي (ع)، أن عدم الاستثمار للمستقبل يؤدي إلى ضياع الإنسان، ومن لا يستثمر للمستقبل هو أعمى البصر والبصيرة؛ فمثلاً الذي ينظر إلى مستقبل ابنه بعد عشرين سنة، سوف يقدم له التربية الصحيحة والسليمة، ويعطيه الرأسمال المعرفي والديني والأخلاقي؛ لكي يعيش في المستقبل وهو يمتلك الثروة اللازمة للحياة، وهذا المثال الذي أتينا به شخصي لكنه يشمل المجتمع ككل.
إذاً فالرؤية الاستراتيجية للإمام علي (ع)، تجعلنا نعمل للمستقبل دون أن نهمل الحاضر ونسير في طريق مستقيم صالح وواضح، نتجنب فيه المآثم والمخاطر والكوارث، سواءٌ أكانت الماديةَ أَو العقائديةَ أَو المعنوية التي سقط فيها كثيرٌ من البشر، نسلك طريق الصواب والحق والعفة والطهر، والإنسان الذي ينتفع اليوم من العبر ولديه من الوعي والفكر والفهم، سوف يسلك الطريق الواضح والموصل إلى الفوز برضوان الله والجنة، ولا يسلك الطريق الشائك والغامض الموصل إلى سخط الله والنار؛ وهو الأمر الذي يؤكّـد عليه السيد القائد دائماً وأبداً، من موقع المسؤولية في الإرشاد والنصح والهداية وإبلاغ الحجّـة.