عبد الجبار سعد شاعر وأديب وكاتب وسياسي واقتصادي وقومي وصوفي ، كل ذلك يجتمع في شخصه – عليه رحمة الله – ينتمي مكانيا إلى محافظة تعز وينتمي فكريا إلى الأمة فقد كان قومي الانتماء الفكري والسياسي ,وظل على عهده مؤمنا بفكرته إلى أن اغتاله فيروس كرونا في السنين الخوالي .
عرفته شاعرا مجيدا، وأديبا فذا في صفحات الصحف الثقافية والسياسية ,ثم أصبحنا صديقين في هذا الفضاء الأزرق , لم نكن صديقين خاملين شأن الكثير بل جمعتنا آصرة الأدب , وكثيرا ما كان يشيد بما أكتب ويطرب له ,وذلك بالتعبير عن ذلك عبر الخاص .
عمل عبد الجبار سعد في أهم مؤسسات الدولة كالمالية والجمارك وفي مناصب قيادية , تعامل معه النظام كمهني في الوظيفة ولم يشترط إيمانه بالايدلوجية التي ينتهجها , فالوظيفة العامة مهنية تحكمها نظم ولوائح وقوانين والموقف الثقافي والسياسي وحتى الشعري يظل من الحريات الشخصية للأفراد والجماعات .
اليوم سوف أعرج إشارة وإلماحا إلى الشاعر والأديب عبد الجبار سعد وسوف أترك بقية الصفات , فمنذ رحل هذا الشاعر إلى دار البقاء كاد رفاق دربه — من الأدباء والشعراء وحتى رفاق درب نضاله الحزبي والمهني – أن ينسوه , وحتى رفاق الحضرات الصوفية التي كان يحضرها تطهيرا للذات من وجع الوجود وأدرانه ,وبحثا عن الصفاء الروحي والسكينة والاستقرار النفسي نسوه , وكان من حقه عليهم أن يكون لهم موقف ولو بكلمة صادقة في حق الرجل الذي كان زميلا لهم .
لست بصدد عتاب أحد هنا , لكن الوفاء صفة أخلافية يجب التأكيد عليها حتى تستقيم حياة المجتمعات في ظل حالة الانهيار القيمي الذي يسود عالم اليوم .
*
الشاعر عبد الجبار شاعر مجيد والإجادة مع جدة الرؤية شرط الأبداع ،كما يرى ذلك الرائي البردوني , وأشعر أنه أقرب نفسا إلى الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد , وثمة ملمح للشاعر معروف الرصافي في شعره , إلا أن ذلك التأثر لا يطمس الهوية الشعرية للشاعر عبد الجبار الذي يبدو لنا أن ذاته تفرض حضورها وتأثيرها بقوة الاستعداد الفطري لها , فالشاعر المطبوع يطمس كل الهويات الشعرية ليسجل الحضور المكثف لذاته وهويته الشعرية , وشاعرنا تنازعته تعدد الاهتمامات فلم يكن الشعر بالنسبة له إلا الملاذ الذي يضع عليه رأسه حتى يودعه ما تجيش به نفسه، أو يسجل من خلاله موقفا كما في نص ” كنز البطولات ”
:
بينـــي وبينـــك غابــــــاتٌ مــــــن الألـــــمِ
يـــا قامـــةَ المجـــدِ والعليــــاءِ والشمـــــمِ
بواســــــق الــــــزورِ والبهتــــــانِ يانعــــــةٌ
ثمارهـا تستقـــي مـــن أدمعـــي ودمـــيِ
غِربانــها قـــد أحالـــت شمسنـــا كِســـفاً
تساقطـــت فـــي مُحيـــطاتٍ مـن الظُّلـــمِ
**
الملاحظ في الشاهد أن الحقل الدلالي في النص كله ينتمي إلى المستوى الثقافي والإيماني الديني ,فالرجل لم ينفصل من ثقافته الدينية بل هي جزء من مكونه النفسي والوجداني ,لذلك تعلن تلك الثقافة عن نفسها في مجازه اللفظي وفي صور نصه الاستعارية , وجمال الشاهد يكمن في براعة الشاعر وحذقه في الموازنة بين الأشياء موازنة شعرية بديعة .
وفي نص آخر بعنوان ” طهر بغداد ” يخاطب بغداد كعاشق وله متيم ويقول :
عليلُ عشـــقٍ .. بكُم شَهـــدي وتِرياقـي
يا طُهـــر “بغـــداد” يا عزّ الهــوى الباقـــي
كـــم ليـلـــةٍ بـلـغَـــت روحـــي تـراقِـيَـــها
غابَ النّدامى .. فكنتِ الخمرَ والساقـــي
وآنــسَـــتْ وحشتـــي ألطافُ ماحَمَلَـــتْ
أرواحُ أهـــلــيــــكِ مـــن نُـــبـــلٍ وأخــلاقِ
“بغـــداد” يا أرضَ أحـبـــابـــي .. موكلـــةٌ
رُوحـــي بكم وهـواكِ السّحـــرُ والرّاقـــي
عِشـــقُ الشهـــادةِ يُغرينـــي بكـم فأرى
مـــعـــراجَ روحـــي فـــي أرواحِ عشّـــاقِ
ترقى إلى الخُلدِ من أقداسِ مَقْدسِكـــم
فـــلا يـُــرى غيـــرَها للمُرتـقـــى راقـــي
فـــداكِ روحـــيَ من معشــوقـــةٍ أنِفَـــت
لفرطِ عزّتـــها مـــن بـــعـــضِ إشفـاقـــي
***
هذا الوله والعشق ليس للمكان بل لما يمثله المكان من رمزية في القيم والنبل والأخلاق والكرامة التي تأبي الخضوع للغزاة , فبغداد لم تكن إلا رمز عربي بعلو شأنها يعلو شأن الأمة وسقوطها يعني الانهيار الكامل للأمة , فرمزية السقوط لم يكن عبثا ولا الاشتغال عليه كان عبثا بل كان عن علم ومعرفة ودراية، فهو يماثل السقوط الأول لها عام 1258م وما تبع ذلك السقوط من تفرق وتشظ وهو الأمر الذي نشهد اليوم في عالمنا العربي، لذلك يأتي في سياق النص قوله :
هــذي الوجـــوهُ التي يَشْـــري كرامتـــها
جيشُ العِدَى , حاصَرَت حُلمي وأشواقي
تَبيـــتُ تـرقبنـــي فــي مرقـــدِي وتـــرَى
تـــقـــلُّـــبــــي بــيـــن آصـــالٍ وإشـــراقِ
ويتّقـــون مـمـــاتـــي يـــوم تـمـنـحـنـــي
عِنـــاقَ مُشـتــاقَـــةٍ جَذلـــى لمُشتـــاقِ
يرضيهمـــو تَـــركَ ميثـــاقٍ قَطَعْـــتُ لَـــهَا
لا عشـتُ إن لم أَصُـنْ لِلطّهــرِ مِيثاقـــي
وما ادّخــرتُ حَيَاتـــي كَـــي أُســـرَّ بـــها
لـــكِ الحيـــاةُ فـــدىً يا طُهـــرَ أعراقـــي
*
وفي نص شعري بعنوان ” صلوات في قلب اللهب ” يبرز موقف الشاعر من القضايا القومية بكل وضوح، حيث يقول :
صلّـى الخليـل فصلّـوا خلـفـه عجـبـا
بيـن اللظـى وسـمـاءٍ تمـطـرُ اللهبــا
صلّــوا وكانت فجـــاجُ الأرضِ فاغـــرةً
أفواهـهـا تنـفـثُ النـيـــرانَ والعـطـبـا
ياليت شعري هل جاءَ الخطـابُ لها؟
أم استحـالـوا بـها من نورهم شهبا؟
*
بــــدورُ غــــــزّة والآيــــاتُ ظــاهــــرةٌ
أعطاكـم اللهُ .. سبحـانَ الذي وهـبــا
قد كان “نمـرود” فــردًا والخليلُ فتـًى
واليوم أعجـزهُ التعـــدادُ مـن حسبـــا
أعراب نجـدٍ , وعُبّـاد الصليبِ , ومــن
أتى به الكفـرُ كي يسترخصَ العَــرَبا
وبـعـد أن كـانـت الغـابـاتُ محتـطـبــا
أضحى الحديـدُ لنيرانِ العِـدى حَطَبـا
لكنّـها لـــم تـرعـهـم فـاسـتـردّ بــهم
إيمانُنـا مــن ثـبـــاتِ الـحقِّ ما ذهـبـا
*
مضـى الخليـلُ فكانـوا الوارثيــنَ لـــهُ
والله ألبـسـهـم مـــن خُلـّـــةٍ نـسـبـا
وإن يـكـن وحــده قـد كـاد مـا عـبـدوا
فكـل طـفـلٍ بـهـم قد حـطّـمَ النُّصُـبـا
*
فرعون مصر بغـى يا غــزّة اصطبــري
“موسى” بكل ضميرٍ يغتلـي غضــبـا
أرضَ الكنانـةِ يـا عشقـي ويا ولهــي
يــا أمَّ مــن مـــلأوا تاريـخـنــا طـربـــا
لا زال وجــهــــكِ مـجــلــوّا بِـعِــزَّتـِــه
يزهو وإن أسدلوا عن نــورك الحجبــا
حضنـتِ كـلّ فتوحـاتـي ولـم تهُـنِــي
وكـنُـتِ أُمّــا لأمـجـادي وكـنـــتِ أبـــا
ترنــــو إلـيـك عـيـون الـعـربِ قاطـبــةً
فأنـجـدي الـديـنَ يـا أمّــاهُ والنـسـبـا
*
أعــادَ منـكِ صــلاحُ الـديـنِ مقدِسَـنـا
والـيـومَ مقدسُـنـا قـد عـادَ مُغتـَصَـبـا
هـل نجـدةٍ يـا أهيـل الفـضـل تنجـدنـا
أو وثْبـَةٍ تُـذهـب الأوصـــابَ والتـعـبـــا
متـى تُـدَك حصـونٌ قطّـعـت رحـمـي
يحمي الخصـيّ بهـا مـولاهُ مُحتسبـا
يـا أرض مصـر أمانينـا بكـم عظمــــت
وأنـــت يا جيـشـهـا قـد آنَ أنْ تَـثِـبـــا
قـم واغسـل العـارَ عـارُ الـذُّلِّ جللنــا
مـنـافـــقٌ تـعـبــت أشــداقــه كذبـــا
فكذّبـي والفظـي دعــواهُ وانتفـضـي
فلـم يـزل باسـم مصـر ينفـق الخطبا
*
وأشرقـي يا شمـوسَ الـعـزِّ ساطـعـةً
فـبِـيْ طِــلابٌ لـعـزٍّ أرهـــق الطـلـبـــا
ماخـاب ظــنٌّ بـكـم فــي كــلِّ نـازلـةٍ
قد كنتمو غـوثَ ملهـــوفٍ لمـن طلبـا
إن يصدق الظــنُّ مصـرُ العـــز تُتحفنـا
بـآيــة تــحــرقُ التـنـجـيـمَ والـكـتـبـــا
وتنتخـي للأولـى أوطانهـم غصـبـــت
فنسـتـرد بـهـا المسـلـوبَ والسـلـبـا
***
هذا هو الشاعر عبد الجبار سعد، الشاعر الكبير الذي حاولنا أن نهرب منه كسياسي وكقومي فحضر السياسي والقومي في شعره , إنه من شعراء الموقف الكبار الذين تركوا بصمات في التجارب الحياتية لكل ذي بصيرة في هذه الدنيا .
رحم الله الشاعر عبد الجبار سعد، فكلمات الثناء لم تعد تجديه شيئا بعد أن كان يود سماعها حيا فضننا بها عليه ,إما خوفا أو رهبة أو تمترسا خلف استار ايديولوجيا ولا بد لنا أن نتجاوز مثل ذلك فالحياة عبر وعظات .

*نقلا عن :الثورة نت