من الصعوبة بمكان في هذه المرحلة من التطوّرات الدولية أن يقرأ المرء أبعاد ما يحدث وأن يستكشف نتائجه، والأصعب أيضاً هو أن يستقرئ آفاق المرحلة المقبلة، ذلك أن المسارات تتخذ حياة مستقلة ضمن سياسات الدول، فلم تعد سياسة دولة ما ذات وجه واحد أو ذات بعد واحد أو ذات منهجية واحدة مع كل البلدان، بل أصبحت سياسة كل بلد تعتمد على الحدث أو الواقعة أو الغاية وتختلف من وقت لآخر حتى مع البلد ذاته، وقد تكون مقبلة مرّة مع هذا البلد ومدبرة مرّة أخرى مع البلد عينه، بحسب ما تمليه أولوياتها والأهداف المرسومة لهذه السياسة بالذات.
من هذا المنظور ربما يصبح من السهل علينا أن نتابع مجريات ما يحدث وأن نفكّك هذه المجريات، وأن نقرأ أبعادها وانعكاساتها في عالم الغد.
وإذا أخذنا العلاقة الصينية الأميركية كأنموذج لهذه المقدّمة، فإننا نرى أن ألدّ الأصدقاء أو دبلوماسية الخصوم أو مودّة المتنافسين تنطبق على هذه العلاقة إلى حدٍّ ما؛ ففي الوقت الذي رفضت فيه الصين الاستجابة لرغبة وزير الدفاع الأميركي أن يزور الصين، وافق وزير الخارجية الصيني على تلبية دعوة نظيره الأميركي لزيارة واشنطن، طبعاً بعد محاولات عديدة بذلتها واشنطن.
وفي الوقت ذاته يجتمع الرئيس بايدن مع الرئيس الياباني ومع رئيس كوريا الجنوبية لترميم عدم الثقة بين اليابان وكوريا الجنوبية، الذي استمرّ منذ الحرب العالمية الثانية، ولوضع أسس لعلاقة ثلاثية الأبعاد: أميركية يابانية كورية جنوبية، تبدو ظاهرياً أنها تستهدف التنسيق الأمني والعلاقات بين هذه البلدان، ولكنها في الواقع تهدف إلى تطويق وتحجيم الصين في محيطها الإقليمي، والاستعداد الإقليمي لما يمكن أن يأتي به المقبل من الأيام بالنسبة لعلاقة الصين مع تايوان.
ربما هذا هو الهدف المشابه جداً لهدف أوكوسا (الولايات المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة)، هذا التكتل الذي تمّ تعزيزه بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا من أجل الحضور في محيط الصين الإقليمي، وعدم السماح للصين بالانفراد في هذه المنطقة الجغرافية إن أمكن.
هذا هو جزء من السباق القائم الآن على مناطق النفوذ في العالم، سواء أكانت هذه المنطقة في المحيط الهادئ أو آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية، وهذا بالذات هو ما يميّز هذه المرحلة من تاريخ البشرية، ولكن الأدوات التي يستخدمها كل طرف من أجل ضمان هذا النفوذ الإقليمي أو على الأقل مشاركته قوة أخرى في هذا المجال الإقليمي، الذي كان يعتبر إلى زمن قريب تابعاً فقط للقوة القريبة منه والجارة، أو أنه من المنطقي أن تلك القوة هي الأقرب وهي التي تتحكّم أو تشارك جيرانها الجغرافيّين بالتحكّم في هذا المجال الإقليمي.
حين يتعلّق الأمر بالجغرافيا تعتبر أميركا أن أميركا الجنوبية هي حديقتها الخلفية، بينما لا تسلّم بأن كوريا الجنوبية أو اليابان أو الفلبين أو تايوان هي الحديقة الخلفية للصين، بل تعطي نفسها حقّ التعاون والتنسيق مع هذه الدول ضد جارتها الكبرى الصين. وكيف تمكّن الغرب إلى حدّ اليوم من أن يمتلك نفوذاً خاصاً جداً في أفريقيا، ويحاول الإبقاء على هذا النفوذ في آسيا وأميركا الجنوبية مع أن كل المتغيّرات تثبت أن وعي الشعوب قد تجاوز التسليم للغرب بقيادة شؤونه وثرواته ورسم مستقبله، وأن الغرب لن يتمكّن بعد اليوم من أن يقود هذه الشعوب على هواه ومن أجل مصالحه هو فقط.
في اجتماع كامب ديفيد بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية تحاول الولايات المتحدة أن تملي أوراق قوة على الصين، مع الترويج الإعلامي لناتو آسيوي تقوده الولايات المتحدة في وجه الصين، مع الإبقاء على طلب اللقاءات والقيام بالزيارات بين الولايات المتحدة والصين. لأنّ حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين لا يتحمّل اهتزازات مفاجئة أو قرارات متسرّعة.
فبعد اجتماع بايدن مع زعيمي اليابان وكوريا الجنوبية أشار إلى أنه يتوقّع لقاء الزعيم الصيني في وقت لاحق هذا العام مضيفاً: “أتوقّع وآمل أن أتابع حديثنا في بالي هذا الخريف، وهذا هو توقّعي”، كما يعتزم دعوة الرئيس الصيني إلى سان فرانسيسكو لحضور قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ الذي يضمّ الصين.
الأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة مع الدول النامية ذو وجهين: العطاء بسخاء للبرامج التدريبية والتي هي في الحقيقة تجنّد تابعين لها في الدول المعنية؛ فمعلومات وزارة الدفاع والخارجية الأميركيتين أعلنتا أن الولايات المتحدة قد أنفقت 6.5 مليارات دولار لتدريب ضباط من دول أفريقية عديدة، وأن أولوية التدريب كانت للإيمان بالقيم الليبرالية. كما أنها من ناحية أخرى تنفق وقتاً ومالاً وتفكيراً لوضع الأولويات، ومن ثم وضع الآليات المحكمة لتنفيذ بنود الأولويات واحدة تلو أخرى.
ففي تصريح السفير الأميركي في اليابان حول الهدف من لقاء الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد يوم الجمعة الماضي قال السفير راهم إيمانويل: “الهدف هو: زرع آليات التعاون في صلب الحكومات، وخلق أساليب عمل بينها لا يمكن تجاوزها”، بينما صرّح نائب مسؤول الأمن القومي في كوريا الجنوبية “أن هدف القمة هو تأسيس بنية تعاون ثلاثي ومأسستها”.
ولا شك أن التعاون العسكري والاقتصادي في المجالات التقنية والذكاء الاصطناعي قد وُضع على سلّم الأولويات. وتجنّب الكوريون الجنوبيون التطرّق لذكرى تحريرهم من اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، لأن الأنظار متّجهة لبناء شراكات وليس إلى استذكار العداوات الماضية والصعوبات.
لا شكّ أن العيون في كامب دافيد تتجه أيضاً إلى جوهانسبرغ حيث ستعقد قمة البريكس في الأسبوع المقبل، والتي ستبحث قضايا اقتصادية وعسكرية، والتصويت على اختيار أعضاء جدد، بعد أن أعلنت عدّة دول أفريقية رغبتها بالانضمام إلى الكتلة، بما في ذلك الجزائر ومصر وأثيوبيا. وفي المجموع دعيت 69 دولة لحضور القمة في جنوب أفريقيا.
عدّة عوامل إذاً سوف تؤدّي دوراً في تحديد مراكز القوى المستقبلية: التكتلات الإقليمية وكفاءة اختيار الأولويات، ومأسسة آليات العمل وديمومتها، وقدرتها على تجاوز الصعاب والمنافسة في عالم يستجمع كلّ قواه وفي مختلف الميادين ليقدّم الأفضل وليُكتب له البقاء.
في هذا المستقبل لن تكون الأرقام أو الأعداد هي الأهم، بل البصيرة في العمل والكفاءة في الأداء، وهذا بالذات هو ما يتنافس عليه المتنافسون. قد يشهد عالم اليوم تكتلات وتحالفات وإعادة تموضع، ولكن القدرة على التحكّم في المسارات، والكفاءة في التفكير والتنفيذ ستكون العوامل الأهم في كسب الرهان.
* نقلا عن :
الميادين نت