منهال الأمين
يقولون إن "إسرائيل" تخوض حرب وجود تهدّد أصل كيانها، ولكن، نحن العرب، أي حرب نخوض؟ حرب وجود، حرب مصالح، حرب حقوق، حرب تصفية حسابات، أم حرب "إما ضد وإما مع الحق العربي"؟
أسوأ ما واجهته القضية أنها أصبحت فلسطينية، ولم تعد في نظر الكثيرين عربية. جزّأ الغرب بوجهه الاستعماري الجديد الصراع بالمفرق، حتى تسهل التنازلات بالمفرق أيضًا.
مصر، ما مشكلتكِ مع "إسرائيل"؟ سيناء، فليكن. منظمة التحرير: تريدين دولة؟ فليكن. الأردن: ضمانات ووادي عربة؟ فليكن. سوريا: الجولان؟ فليكن؛ ولكن... لبنان: 425؟ فليكن؛ ولكن... طبعًا المشترك في كل ما سبق هو الإغراءات المالية والوعود بمستقبل اقتصادي واعد، على غرار الربيع اللبناني الذي نُظِّرَ له مطلع التسعينيات.
كانت لدول الطوق وصفتها الخاصة، أما دول الخليج والمغرب العربي فوصفات خاصة جدًا لكل منها.
في 27 آذار من العام 2002، انعقدت في بيروت القمة العربية الرابعة عشرة، وترأسها لبنان البلد المضيف. عمليًا، كان نجم القمة هو الأمير عبد الله، ولي العهد السعودي آنذاك. جاء الأخير بمبادرة، أُسميت عربية، وكانت "تقدمية" جدًا إذا ما قارناها بحجم الانبطاح الحالي، إذ تضمنت موافقة العرب على حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في العام 1967، من دون التطرق إلى حق العودة. في الواقع كان الطموح العربي ما زال مقبولًا، على هزالته.
يروي مطلعون على كواليس القمة أن رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات كان بصدد تضمين كلمته الموافقة على المبادرة، مع خلوها من بند حق العودة. لا ندري إن كان عرفات وقع في الفخ المنصوب يومها، أم كانت نيته مبيّتة لذلك؛ فالرجل دفع حياته ثمنًا لعدم التماشي مع حلول من هذا النوع، بعد أن جرّب التنازل كثيرًا ولم يلاقِه أحدٌ، لا في منتصف الطريق ولا حتى في عنق الزجاجة.
تنبّه للأمر الرئيس اللبناني آنذاك العماد إميل لحود، كان هو رئيس مؤتمر القمة، وكان أول ما فعله أن طلب تعديل المبادرة وتضمينها حق العودة (صدر قرار حق العودة عن الأمم المتحدة تحت الرقم 194 بتاريخ 11/12/1948)، لما لهذا الأمر من تداعيات سواء على لبنان، أو على مستقبل الفلسطينيين في الشتات. وبالتوازي رتّب الرئيس لحود عدم بث كلمة عرفات إلى أن تتعدل المبادرة.
تعدّلت المبادرة بإصرار لبناني. كان هناك من يمكن أن يقول للسعودية: لا (فضلًا عن صموده في وجه الأميركيين). إلا أن الرئيس عرفات استاء مما جرى ففضّل بث كلمته عبر قناة الجزيرة الفضائية، معلنًا تبني مبادرة الأمير عبد الله. وهذا التبني حصل بعد التعديل، أي تضمن حق العودة، وللأسف لم يكن مطلبًا فلسطينيًا "رسميًا"، مع أن عرفات ختم كلمته بعبارته الشهيرة: شهيدًا، شهيدًا، شهيدًا.
تلك القمة شهدت الكثير من الأخذ والرد. في قاعة الصحافة، كان وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل يرد على أسئلة الصحافيين عن خلفيات المبادرة ودوافعها، فيقول: هناك من يريد أن يقاتلَ الفلسطينيون حتى آخرهم... إذًا، بهذا المعنى تصبح مبادرة الأمير عبد الله حقنًا لدماء الفلسطينيين! ولكن، كيف تكون إنهاء لمعاناتهم، ولو مرحليًا، وقد تنكرت لحق العودة في نسختها الأصلية؟.
لم تمرّ ساعات على قمة بيروت حتى كانت قوات الاحتلال تطحن مخيم جنين، وترتكب مجزرة مروعة فيه، وتحاصر عرفات في مقر المقاطعة، وتقتل وتأسر وتجرح العشرات من الفلسطينيين في الضفة، وكذلك في غزة، التي بدأ العدو فيها سلسلة إجراءات وأعمالًا عدوانية قوّض عبرها سلطة الحكم الذاتي المدّعى (الهجوم على ميناء غزة في يناير 2002 وتدمير مقر شرطته).
حتى نيسان 2002 كان الراحل ياسر عرفات قد اختبر عقدًا من التفاوض الفاشل مع الصهاينة، وأصبح بحاجة إلى موقف عربي ما، يتعلق به قشةَ نجاة.
حتى إن حركة حماس لم تمانع قيام "دولة فلسطينية عاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967" وفق ما جاء في "وثيقة المبادئ والسياسات العامة" الصادرة عنها بتاريخ الأول من أيار/مايو 2017. أي أن ما يمكن أن نسميه إيجابية عربية، لم تلقَ من العدو إلا كل تعنت وعسف.
يمثل هذا الموقف جزءًا من قناعة عربية. ودعونا نميّز بين الموقف العربي، الذي نجح الغرب المستعمر في تطويعه بالمفرق حتى أصبح أكثرية لا يستهان بها، وبين الموقف العربي، المتمثل في حركات المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا، ما اصطلح عليه لاحقًا باسم "محور المقاومة" أو "محور الممانعة"، المدعوم بقدرات إسلامية تمثلها الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد انضم إليه اليمن والعراق لاحقًا.
ما يجري اليوم هو حرب إبادة جماعية حقيقية. أسوأ ما فيها تحميل الضحية مسؤولية الحرب، مسؤولية أن يمارس الصهيوني عاداته الأصيلة في تكوينه في الإجرام والدمار والفتك بالعزّل، والتجزير بالأطفال حتى الرضّع، وقصف المستشفيات وتشديد الحصار، والتهجير والتجويع...
نعم، هناك صمت عربي مطبق. كأن سعود الفيصل ينطقها مرة أخرى: هناك من يريد للفلسطينيين أن يبادوا عن آخرهم... ولكنه لا يضيف: هنا – في غزة – الفلسطيني يريد أن يقاتل، بل إنه يقاتل، لا يريد أن يترك أرضه، وأن يُنكب مرة أخرى، ويُزجّ به في مخيمات الشتات هنا وهناك.
إنه يكتب حق العودة بدمائه، ويشطب المبادرات المتهافتة أمام عدو لا يقيم وزنًا لاتفاقيات أو معاهدات، بل تردعه القوة ولا شيء غيرها.
فحتى يوم الأربعاء 13 ديسمبر 2023، وهو اليوم السادس والستون للحرب، اعترف العدو نفسه، وفق وسائل أعلامه، بمقتل 444 جنديًا وضابطًا، بينهم 82 من عديد لواء غولاني، و103 برتبة نقيب وما فوق.
نعم، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين حتى تاريخه، وفق وزارة الصحة في غزة، 18608 شهداء و50594 جريحًا، فضلًا عن دمار ضخم جدًا في البنى التحتية والمنازل السكنية والمدارس والمستشفيات (بلغ عدد المدارس المدمرة كليًا 75 مدرسة، فيما استهدفت 277 مدرسة أخرى)...
هل هناك تناسب عددي؟ أبدًا، ولن يكون، لا في أعداد العسكر ولا في أعداد المدنيين. ولو عدنا إلى أرقام كل الحروب السابقة، ومنها حرب 2006 سنجد انعدام التناسب في الخسائر البشرية بيننا وبين العدو. وهذا يعود إلى أسباب التفوق الناري والدعم الغربي، وقبل كل شيء إلى سياسة المجازر والتدمير التي قام عليها الكيان، وظلت سياسة متبعة في التعامل مع من يقاومه أو يعانده.
هل هذا يعني أن المطلوب أن يقاتل الفلسطينيون حتى يبادوا؟ كلا، فلن يكون بمقدور كيان العدو ومن خلفه الأميركي أن يقضوا على فلسطين، غزاويين وأهل ضفة وأراضي 48. لا يجب أن ننسى جذوة المقاومة التي بدأت تتصاعد في الضفة وفي القدس، ووتيرتها مشجعة جدًا. لا يجب أن ننسى أبطال عمليات الذئاب المنفردة، أبطال "الكارلو"، أبطال عمليات الطعن وبطلاتها، أبطال عمليات الدهس... هذا ما يدل على أن القضية حية، والقضية ليست فلسطينية فقط، فهي تحظى بدعم عربي وإسلامي، قائم على شرعة النضال لا على تشريع الأنظمة فقط.
يلاحظ المراقب التصاعد الذي شهدته الضفة في العمليات الفدائية أثناء الهدنة: طعنًا ودهسًا وإطلاق نار، الأمر الذي يفرض سؤالًا حول استعجال العدو في خرق الهدنة واستئناف التدمير والمجازر.
في التاريخ عينه، أي يوم 13/12/2023، قال عضو مجلس الحرب في كيان العدو بيني غانتس: حرب البقاء الثانية التي نخوضها تكبّدنا ثمنًا باهظًا ومؤلمًا وصعبًا. إذًا، هي حرب البقاء، فيعطي الصهاينة لأنفسهم "حق" الإبادة، حقًا في ما لا حق له فيه. وما أعجبَ أن يجتمعوا على باطلهم وعدوانهم وأن نختلف في حقنا. حقنا في المقاومة في البقاء حيث وجدنا، حيث لم نعتدِ ولم نعدُ، ضد من اعتدوا وعدوا في السبت وقبله وبعده، وفي السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 يوم لا يُنسى من بعض العقاب الذي يستحقونه.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري