لقد جاءت عملية طوفان الأقصى في السابع من اكتوبر الماضي لتحيي الأمة العربية والإسلامية من سباتها وتعيد قضية فلسطين إلى أولوياتها، كما أدت إلى تفاعل الأجيال الجديدة مع هذه القضية والتعرف إلى جذورها وما أحدثه الاستعمار الغربي وخاصة البريطاني والفرنسي في بلادنا العربية من تقسيم وسيطرة، وكذا قام بغرس جسم غريب داخل الوطن العربي يعمل من خلاله على بث الخلافات بين الشعوب العربية واستغلال ثرواتها المختلفة.
كما عملت هذه العملية البطولية إلى لفت أنظار العالم إلى قضية الشعب الفلسطيني الذي ذاق مرارة التشريد والتنكيل من قبل الكيان الاسرائيلي المغتصب خلال أكثر من 75 عاماً، مما أدى إلى خروج شعوب العالم وتفاعلهم مع هذه القضية ومع أبناء فلسطين منددين بالمجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني النازي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
لقد أدرك المثقفون والأكاديميون العرب والمسلمون خطورة ما يقوم به الكيان الإسرائيلي من تهويد للقدس وللأراضي الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو في الأراضي التي احتلتها في العام 1948م.
يرفض الأكاديميون والمثقفون في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي من خلال تصريحاتهم وكتاباتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة العمليات التي يقوم من خلالها الكيان الصهيوني مؤخراً في تهويد القدس، ويؤكدون بأن “تهويد القدس باطل”. بهذه العبارة الحاسمة يردون على المزاعم والأباطيل التي تبرر تهويد مدينة القدس بفلسطين المحتلة، ومحو وطمس الهوية العربية والإسلامية والمسيحية للمقدسات بها، من قبل الكيان الإسرائيلي المحتل، عن طريق تزييف الوعى الذي اغتال كثيرا من المفاهيم الصحيحة، بما يضر بالحقوق الفلسطينية، بعد أن قام بـ”عبرنة” أسماء المدن والبلدات والجبال والوديان العربية بالمدينة.
ويأتي التأكيد منهم أن التصدي لتلك الأكاذيب والمسميات هو لون من ألوان المقاومة الثقافية لهذا الكيان المغتصب، مطالبين بإيقاظ الوعى بالقضية الفلسطينية لحماية حقوق الشعب الفلسطيني، وترسيخ قضية القدس في وجدان الأجيال المختلفة.
للكيان الصهيوني المحتل تاريخا طويلا في تحريف الكلم عن مواضعه، بهدف قلب الحقائق، وسعى في إطار ما سمى سياسات التهويد، إلى تبديل كل شيء أمكنه تغييره من معالم العروبة والإسلام، وحتى المعالم المسيحية في القدس وفلسطين، من أجل طمس الهوية الأصيلة لهما، والتمهيد لإسباغ أهدافه الدنيئة على تلك البقاع المقدسة.
ومن أمثلة عملية التهويد تغيير أسم مدينة “القدس” العتيقة والمعروفة عبر التاريخ الإنساني التي صارت “اورشليم”، وهي عبرنة لاسم “أور سليم” العربية الذي أطلقه اليبوسيون العرب على بيت المقدس، وقد دخلوه هم والكنعانيون قبل أن يدخله الاحتلال الإسرائيلي بزمن طويل، مما يرد – من الناحية التاريخية – على مزاعم أحقية المحتل الإسرائيلي في المدينة، و”تل الربيع” الذي صار “تل أبيب”، و”أم الرشراش” التي صارت “إيلات”، و”حائط البراق” الذي أصبح “حائط المبكى”، وموضع “المسجد الأقصى” الذي تحول إلى موضع الهيكل المزعوم والأمثلة على ذلك لا حصر لها.
مواجهة الذراع الثقافية للاحتلال
ويتجدد التحذير من أن التهويد هو الذراع الثقافية للاحتلال العسكري المباشر، وأنه حالة تختلق الذرائع لبسط هيمنته على حقوق صاحب الأرض عن طريق التزوير، بل لا يبعد أن يُقال إن التهويد هو الهدف النهائي من الفعل العسكري المباشر، فكل الأعمال العسكرية التي مكنت للاحتلال تغيير هوية القدس، والأراضي المحتلة بطريقة إحلالية، إذ أحلت هوية المحتل محل الهوية العربية والإسلامية الأصيلة للبقاع المحتلة، ويأتي في نفس الاتجاه أن التهويد اللغوي والثقافي أمر لا يستهان به؛ لأنه يستخدم في سلب الحقوق الفلسطينية من خلال اختلاق مسوغات باطلة لإضفاء المشروعية على عمليات الاحتلال والاستيطان، كما يسهم في تغريب الوعي العربي والمسلم؛ إذ يطبع في نفوس العامة، لا سيما الأجيال المعاصرة، وعيا مزيفا بالقضية الفلسطينية، ويخدم مزاعم الاحتلال حول الحق المزعوم في القدس وفلسطين المحتلتين.
لابد من التأكيد أن للأجيال الناشئة حقا علينا في تنقية وعيها من زيف هذه المزاعم والأساطير المؤسسة لرؤية المحتل، أن التصدي لأكاذيب المحتل الإسرائيلي هو من أشرف ألوان المقاومة التي يمكن إدراجها ضمن المقاومة الثقافية للاحتلال وذلك لحماية حقوق الشعب الفلسطيني، وجعل القضية الفلسطينية حية في وجدان الأجيال المتعاقبة للأمة.
الوعي التاريخي
إن الوعي الـتاريخي ليس مجرد إحساس بالتاريخ أو بالأحداث التاريخية؛ بل هو عملية تقويمية لما يدور في دائرة وجوده التزاما بالمسئولية الأخلاقية، التزاما لا المهادنة أو الممالأة، ومنذ بدء تاريخ المحتل الإسرائيلي استطاعت الحركة الصهيونية أن تبنى بناء كبيرا من الكذب وصرحاً مرتفعاً من التلفيق والتزييف، وقد جاءت آيات القرآن الكريم دقيقة في وصفها لنفسيتهم، وطبيعة عقولهم التي تحب التزييف بل تتشربه؛ فهم يحرفون كلام الله، ويحاولون خداع الأنبياء من خلال اعوجاج مقصود كلامهم وألسنتهم، ولعل ذلك من أبشع أنواع التزييف حيث يلوون بألسنتهم وكلامهم كلام الله ظنا منهم أنهم يخدعون بذلك من يسمع لهم، ويزيفون له الحقائق، إذ يقول تعالى: «من الذينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ (٤٦) مُسْمَع وَرَاعِنَا ليا بالسنتهم (سورة النساء).
وتشير تصرفات الكيان الصهويني إلى تزييف الكثير من أسماء الأماكن العربية في مدينة القدس بفلسطين، وتغييرها إلى أسماء عبرية، ومنها حائط المبكى الذي هو زعم صهيونى تم إطلاقه على “حائط البراق” وبدأ الترويج له بعد صدور وعد بلفور عام ١٩١٧م بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، حيث أخذوا في زيارة الحائط، وإقامة طقوسهم أمامه مع البكاء والنواح على خراب وتدمير هيكلهم المزعوم. إلاّ أن التاريخ والجغرافيا والقوانين والأعراف الدولية والحقوق الإسلامية والعربية كلها تأبى إلا أن يكون حائط البراق، الذي ربط فيه النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء والمعراج، لا حائط المبكى كما يدعى المحتل الإسرائيلي بتزييفه الحقائق.
مسميات “توراتية”
لقد شغلت مسألة “العبرنة” مكانة محورية في الفكر الصهيوني؛ لأنهم رأوا أنه من الأهمية بمكان اختلاق وعى صهيوني جديد، وتجلى للمهاجرين اليهود بتغيير أسمائهم، وتبنى أسماء أعلام عبرية بدلا من أسمائهم، وكما عمدت الحركة الصهيونية إلى تغيير أسماء الشخصيات فإنها عملت أيضا على تغيير أسماء الأماكن، ومن هنا أطلقوا مسميات توراتية على الأماكن الفلسطينية، كمسمى “شخيم” على “نابلس”، و”حبرون” على “الخليل”
لقد ادركت الصهيونية منذ تأسيسها أنه لا يمكنها تحقيق أهدافها الاستعمارية إلا من خلال تغيير الوعى، واختلاق وعى جديد، ومن هنا ذكر المفكر اليهودى “إحاد هعام” أن “تأسيس مدرسة للفنون الجميلة في القدس أكثر أهمية من تأسيس مائة مستوطنة”، كاشفا رؤيتهم أن تأسيس المشروع الصهيوني لن يتحقق من خلال الأموال أو الأسلحة فحسب، وإنما من خلال إقامة مؤسسات صهيونية عملت على تجذير وجود الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
إيقاظ الوعى
والخلاصة يجب أن يتحمل الكل نصيبه من مسؤولية إيقاظ الوعى، فالعلماء عليهم أن يؤصلوا قضية القدس في وعى الأمة بطريقة علمية، والمؤرخون يقدمون مبادرات للتنفيذ لإيقاظ هذا الوعى، ثم على الإعلام أن يستفيد من هذا الفكر العلمي ويترجمه إلى مواد إعلامية مستمرة الوجود، فلا يكون فورة لحظية لوقت ما ثم يحيد عنها، لأن الصراع طويل المدى، ومن مصلحة القضية الفلسطينية، وحماية حقوق الفلسطينيين، أن يترسخ هذا الوعي في عقول ونفوس الأجيال المتعاقبة للأمة.
وعلى التوازي يجب على المسيحيين الفلسطينيين مسئولية موازية لعلماء المسلمين سواء بسواء وأن الإعلام والدبلوماسية شريكان في نشر هذا الفكر العلمي بين كل دول العالم، فإذا جئنا إلى الشعوب وجدناها مشحونة بالعواطف والمشاعر، فإذا استطعنا أن نضبط هذه المشاعر بحقائق تتصل بالقدس المحتلة كان ذلك طريقا مؤثرا على مصالح من يحاولون اغتيال حقوق العرب والمسلمين والمسيحيين في القدس المحتلة.
*نقلا عن :الثورة نت