عبدالمنعم علي عيسى *
لا يُعرف الكثير عن الناطق باسم «كتائب القسّام»، «أبو عبيدة»، لا سحنته ولا تفاصيل وجهه وجسده اللازمة لمعرفة الكثير عن الشخصية، ولا بيانات الهوية اللازمة لتحديد تواريخ دالّة، من مثل مكان وتاريخ الولادة، تعطي انطباعاً عن البيئة، ومعها حواضن الوعي والأفكار. جلّ ما يُعرف عن الرجل هو تلك الصورة التي اختارها لكي يُصدِّرها إلينا، فنعرفه بها.يمكن اختصار ملامح شخصية «أبو عبيدة»، الذي اختار كنيته تيمّناً بالاسم الأول لفاتح القدس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، أبو عبيدة بن الجرّاح، بوجه يعتمر كوفيةً حمراء على الدوام، في تقليد فلسطيني يستحضر الإرث والتاريخ اللذين يبدوان غائصين في ذات الرجل، شأنهما في ذلك شأن ما يفعلان عند الكثير ممن حملوا راية الدفاع عن الهوية الفلسطينية، ولكن مع فارق أنّ المسألة عند هذا الأخير تتمثّل بطابع عملياتي أكثر منه «استعراضيّاً». بتعبير آخر، هو متجذّر إلى حدّ الانصهار في تلك الهوية، راسماً بذلك خطّ الدفاع الأول والأخير عنها، في ملمح يتأكّد عبر جملته التي اعتاد أن يختتم بها كل بياناته: «وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد» المأخوذة عن الشيخ الشهيد عز الدين القسّام، الذي قالها قبيل استشهاده في معركة «أحراش يعبد» عام 1935.
ظهر «أبو عبيدة» للمرة الأولى عام 2002، وهو مغطى الوجه، في تقليد استمده من زعيم «كتائب القسام» السابق، عماد عقل، الذي اعتقلته إسرائيل عام 1993، ولكنّ نجمه سطع في 25 حزيران عام 2006، عندما أطلّ معلناً نبأ أسر كتائبه، التي أصبح ناطقاً باسمها مذّاك، الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، بعد عملية قامت بها رداً على سقوط قذيفة على منزل هدى غالية، الطفلة التي لم تبلغ ربيعها العاشر آنذاك. وفي أعقابها سرعان ما ظهرت هدى في شريط مصوّر وهي تركض على شواطئ غزة، مناديةً أباها قبيل أن تسقط باكية بجوار جثمانه. لوهلة بدا المشهد، وردّة الفعل التي استحدثها، أقرب إلى ردّة فعل الخليفة العباسي، المعتصم بالله، الذي استلّ سيفه لنجدة امرأة مسحولة من عمورية استصرخت نخوته، فقام بدكّ حصن المدينة على مغتصبيها.
سيثبت «أبو عبيدة»، عبر كاريزما الصوت فحسب، التي أجاد استخدامها في كل المواجهات، بدءاً بـ«أيام الغضب»، ووصولاً إلى «طوفان الأقصى»، وما بينهما من «معركة الفرقان» و«حجارة السجّيل» و«العصف المأكول» و«سيف القدس»، أنه صاحب مدرسة إعلامية متميّزة استطاع عبرها أن يلعب دور الشريان الرئيسي للحرب النفسية التي تفوّق فيها على وسائل إعلام العدو مجتمعةً، بكل ما تملكه الأخيرة من دعم مالي وتقني غير محدودين. نشرت وسائل إعلام عبرية عام 2014، بإيعاز من «الشاباك»، صوراً قالت إنها لـ«أبو عبيدة». في واحدة منها يظهر وجهه، و هو ملثّم، في حين تُظهر أخرى صورة وجه ذي ملامح تنم عن شخصية صلبة، وقد كتب إلى جانبها اسم «حذيفة سمير عبد الله الكحلوت»، الذي ادّعت تلك الوسائل أنه هو اسمه الحقيقي، الأمر الذي نفته حركة «حماس»، واصفةً المعلومات المشار إليها بأنها «مزيّفة ولا أساس لها».
الرجل - الظاهرة جاء معبّراً عن مكنونات الذات الجماعية للأمة التي ظلّ فيها منصب «الناطق» شاغراً
لم يكن الجدل الدائر على ضفّتي الادّعاء والنفي آنذاك، يحمل بين ثناياه طابعاً أمنياً، بقدر ما كان يشير إلى كاريزما نجحت في جبّ فنون الخطاب الموجّه إلى شارع يصله نصف ما يحدث فقط، في حين أنّ النصف الآخر كان «عجينيّ» القوام، ما يجعل من فعل «تصليبه» أمراً بالغ الأهمية على ضفتي الصراع، وهو ما بدا «أبو عبيدة» متقناً له بدرجة لا يشوبها الشك. مع انطلاق معركة «سيف القدس»، عام 2021، تحوّل الرجّل إلى أيقونة إعلامية. ففي الأردن راح جيل الفتية والشباب يتلقّف خطاباته بشغف كبير كمن يوقظ فيه مشاعر دفينة، كما بدأت المساجد تنشر ما يقوله عبر مكبّرات صوت تعمّد القيّمون عليها توسعة نطاقات بثها. والأخيرة سرعان ما تحوّلت إلى منابر ذات مفاعيل عدة، أبرزها ضرب الأثر الذي كانت القنوات العبرية تعمل على تسويقه، وهو في مجمله يجهد لتكريس صورة «الجيش الذي لا يُقهر». مفاعيل جاءت على صورة سكّين تمزّق هذه الصورة. وفي مصر كان الشارع، بما يمتاز به من حسّ قادر على التقاط اللحظة وتحويلها إلى ترنيمة، قد ذهب نحو ترسيخ الظاهرة عبر سيل من الأغاني التي صار الصغار يردّدونها، كما تلك التي جرت العادة عليها في الأعياد والأفراح. وفي الجزائر بدأ صبية المدارس يتنافسون على تأدية دوره في مسرحيّاتهم التي يقيمونها في باحات مدارسهم، أو الطرقات الموصلة لبيوتهم. أما في لبنان، وتحديداً في البقاع، فقد احتوت الامتحانات، لذلك العام، أسئلة عنه، بالتزامن مع ظهور صورة له، في وسط بيروت، كُتب تحتها «الناطق باسم الأمّة». كان ذلك يعني أن الرجل - الظاهرة جاء معبراً عن مكنونات الذات الجماعية للأمة التي ظلّ فيها منصب «الناطق» شاغراً لمدّة طويلة.
فجر السابع من أكتوبر، يوم «طوفان الأقصى»، كان الرجل على موعد مع فجرَين، أولهما «شخصي»، وثانيهما «وطني» من النوع الذي ينوب عن أمة بحالها. ففي الأول، تحوّل منبره الذي أجاد الظهور عبره إلى ترنيمة استساغتها الآذان التي دائماً ما ملّت المنابر وما يصدر عنها؛ وفي الثاني، أضحى «أبو عبيدة» وبياناته كمشرط في يد جرّاح يدرك جيداً مساحة التلف الحاصل في الأنسجة، ثم أخذ يكشطها ببراعة لافتة دونما أيّ اعتبار للآلام الناجمة عن الفعل لغياب «المخدّر»، الذي يؤدّي دوراً ضاراً في حالات من هذا النوع.
ما بين 25 تشرين الثاني الماضي و10 كانون الأول الجاري، غاب «أبو عبيدة» عن الظهور، لتخرج وسائل إعلام الاحتلال بنظرية تقول إنه «أُصيب .. و لربما قُتل»، ولكنّ الأخير خرج في الحدّ الأخير للغياب، معلناً أنّ قواته «استطاعت تدمير 180 آلية عسكرية» بعد استئناف العمليات في أعقاب هدنة الأيام السبعة. كان ذلك يشير في أوساط الخبراء والمحلّلين، إلى خسارة جولة كبرى لا تقلّ أهميةً عن تلك التي خسرها العدو في غضون الأيام الخمسة والستين السابقة للظهور المشار إليه.
في حمأة النار، وبينما كان لهيبها وآلامها يُبرزان المؤشّرات على أنّها ماضية نحو مديات أبعد، خرج إلى العلن شريط فيديو قصير. وفي نهاية الصورة، كان هناك رجل يقوم بترميم جدار أو ما شابه، وهو يعتمر الكوفية الحمراء، في ملمح يشير إلى تماهي الفعلين حدّ الانصهار. وفي مقدّمة الصورة، ظهرت فتاة بين الثالثة والرابعة من العمر. تقترب العدسة من وجه الفتاة التي وضعت إصبعها في فمها وهي تبتسم، ناظرة بالتناوب إلى الكوفية وإلى الكاميرا، لتقول: «أبو عبيدة».
* نقلا عن :الأخبار اللبنانية