د. علي مطر
ردود فعل متفاوتة صدرت بعد إصدار محكمة العدل الدولية نص قرارها الذي يفرض على "إسرائيل" تدابير مؤقتة "لمنع الإبادة الجماعية" في غزة، حيث تم اعتماد أغلب البنود بموافقة 15 عضوا في لجنة القضاة الـ17. المحكمة التي أعلنت قبولها النظر بدعوى جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" بتهمة الإبادة الجماعية، قضت بأن الشروط متوفرة لفرض تدابير مؤقتة على الكيان لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وتوفير الاحتياجات الإنسانية الملحة فورًا، دون أن تصدر أمرًا بوقف إطلاق النار.
بعيدًا عن السياسة، أنجزت المحكمة خطوتين هامتين جدًا على المستوى القانوني، الأولى إعلانها اختصاصها بمحاكمة "اسرائيل" بتهمة الابادة الجماعية، وهذه نقطة هامة جدًا كانت "اسرائيل" تعترض عليها. أما الخطوة الثانية، فترتبط بغياب التدابير الاجرائية أو تدابير الحماية، وهنا تكمن ثغرة معيّنة مع عدم إشارة المحكمة إلى وقف الأعمال العسكرية، ما يجعلنا ندخل إلى الشق السياسي. علمًا أن أي قرار يصدر عن هذه المحكمة، خاصة في قضايا الإبادة الجماعية يكون ملزمًا قانونًا للأطراف، وبالتالي على "اسرائيل" أن تلتزم بما صدر عن المحكمة التي ألزمتها باتخاذ كل الإجراءات "التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية".
المحكمة التي تعتبر بمثابة الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، أقر بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، مؤكدة أن الشروط متوفرة لفرض تدابير مؤقتة على "إسرائيل"، ملزمة إياها بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والإعتداء والتدمير بحق سكان غزة، وأن تضمن توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في القطاع بشكل فوري. كما يتعين عليها أن ترفع تقريرًا للمحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة.
من بين الثغرات القانونية، هو حديث المحكمة عن التحريض. لقد صدر التحريض ضد الفلسطينيين من رأس الكيان الصهيوني، على لسان وزير الحرب "يؤاف غالانت" كما على لسان رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" وغيرهما، بينما المحكمة فصلت وفرّقت بين "اسرائيل" كـ"دولة" (كيان) وبين مسؤولين اسرائيليين يمكن أخذهم إلى المحكمة الجنائية الدولية دون أن تحاكم "اسرائيل" ككل على الإبادة الجماعية، وهذه نقطة مهمة يجب التعمق فيها ودرسها.
لماذا لم يتخذ قرار ملزم بفرض وقف إطلاق النار على "اسرائيل"؟
منذ بدء المرافعات الاسرائيلية في المحكمة، ركزت جميعها على فكرة "الدفاع عن النفس". وهنا توجد ملاحظة لا بد من الالتفات اليها. فالمحكمة بدأت بدراسة الملف من تاريخ 7 تشرين الأول/ اكتوبر 2013 إلى اليوم، وهذا ما اتاح للاسرائيليين الزعم بأن أساس القضية انطلق من كون الكيان تعرّض لـ"هجوم دموي" في 7 أكتوبر، وبالتالي فإن حربه على غزّة تمثّل بالنسبة الى من قاموا بالمرافعات في المحكمة عن الكيان، دفاعًا عن النفس بوجه هذا الهجوم، ومحاولة لاخراج أسراهم من قبضة المقاومة الفلسطينية. علمًا أن هجوم 7 أكتوبر هو ردة فعل على قضية ومعاناة بدأت من عام 1948 مع احتلال الأراضي الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني وارتكاب المجازر، وتقسيم القدس، وما الى ذلك من تفاصيل بيّنتها لاحقّا حركة المقاومة الاسلامية ـ حماس في وثيقتها "رواية المقاومة لطوفان الأقصى".
صحيح أن المحكمة لم تشر بشكل واضح أو مباشر إلى وقف الأعمال القتالية، لكنها فتحت مساران من خلال أعمال التقييد، مسار لـ"اسرائيل" تحت حجة الدفاع عن النفس لكي ترضي الطرف الاسرائيلي والغرب والولايات المتحدة الأميركية، والمسار الآخر أنها من خلال منع الإبادة وعدم التحريض تريد المحكمة أن تقيّد مفاعيل الإبادة، لكن هل يمكن أن تلتزم "اسرائيل" بوقف مفاعيل الإبادة كونه لا يوجد قرار مباشر؟ هذا ما يحتاج إلى نقاش أوسع.
بعد صدور قرار المحكمة (قبول الاختصاص بالدعوى وتدابير الحماية)، الخطوة التالية هي إلزام "اسرائيل" بقرارات المحكمة، ورفع الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش تقريره الى مجلس الأمن من أجل الزام "اسرائيل" بها. بعد الذهاب الى مجلس الأمن، يمكن أن نكون أمام سيناريوهين إما أن نكون أمام الفصل السادس (رفع توصية لاسرائيل بالالتزام بعدم ارتكاب الابادة) وهذا ما يمكن ان توافق عليها الولايات المتحدة الأميركية، فاميركا لن تقبل لمحاكمة الكيان بطبيعة الحال. أما السيناريو الآخر فهو الذهاب الى الفصل السابع، وبالتالي نكون أمام "حق النقد الفيتو" من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي يمكن أن توافق على السيناريو الأول.
يبقى أن تجتمع المحكمة وفق جلسات تقررها للتداول في الحكم، ويمكنها عندها أن تقرر بأن "اسرائيل" ارتكبت أو لم ترتكب الإبادة، وهذا الحكم قد يأخذ البت به سنوات، فوفق بعض السوابق القانونية، أخذت المحكمة قرابة العشر سنوات لاصدار حكمها.
في جميع الأحوال، تعتبر خطوة محاكمة "اسرائيل" أمام محكمة دولية بتهمة الإبادة الجماعية هو ضرر إضافي يلحق بصورة الكيان والمدافعين عنه حول العالم، امام المحكمة الحقيقية التي تصدر قراراتها وتنفّذها فوراً، فهي محكمة المقاومة الأكثر فعالية مع عدو غاشم كالعدو الاسرائيلي.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري