وصل التحالف الدولي -الذي تقوده أمريكا ضد اليمن- إلى قناعة كاملة بفشل الخيار العسكري في تطويع اليمن وأهله للمصالح الدولية، ولا يخامرني شك أن الخيار العسكري ليس خياراً للتحالف في قابل الأيّام، فالحديث عن تحريك ملف التسوية السياسية تجدد اليوم بعد أن كان في حكم المجمد، وقد بدأت مؤشراته في سالف الأيّام وهو يتصاعد يوماً بعد آخر، من خلال ممارسة الضغط السياسي والاقتصادي، وهو اليوم في أوج اشتغاله من خلال تفكيك المفاهيم والمصطلحات وهدم كُـلّ ما هو مقدس في وجدان المجتمع.
فكل مفردات الخطاب التي كانت تبرز خلال الفترة الماضية –وهي أشد كثافة في شهر رمضان- كادت أن تنتمي إلى حقل دلالي واحد لا يتجاوز حقل المقدس، والتمايز، والطبقية، والمناطقية، والطائفية، فاليمن -كمفهوم جامع- ما يكاد أحد يتحدث عن جوعه وحصاره ولكنهم يتحدثون عن حصار وجوع مدينة، أَو قرية في اليمن، ويغضون الطرف عن العدوّ الخارجي الذي خطط، وقتل، وجوع، وحاصر الناس، وبث فيهم روح الكراهية والعداوات، ولا يرون إلا من ترغب أهواءهم أن يرونه عدواً ولو لم يكن عدواً.
الكثير من فقاعات هذا الزمن التبس لديهم مفهوم الوطن والوطنية ومفهوم العمالة، فهم يتحدثون في كتاباتهم وفي الفضائيات عن الوطن فلا يكاد يتجاوز القرية، ويتحدثون عن الوطنية، ووطنيتهم المزعومة تتجاوز اليمن، وقد ترى في السعوديّة والإمارات الوطن البديل، ويتحدثون عن العمالة ومفهومها عندهم يتجاوز بكل الصور والأشكال الانتماء إلى اليمن وإلى صنعاء، فمن كان منتمياً إلى صنعاء فهو عميل لصنعاء، ومن كان منتمياً إلى التحالف الذي دمّـر اليمن وعاث فيها فساداً وصادر ثرواتها وأحتل أرضها وعبث في قرارها وسيادتها واستقلالها فهو وطني محض، وهذا معيار لم يتعارف عليه البشر من قبل لكنه معيار اخترعته بوهيمية الإخوان فسار عليه كُـلّ المرتزِقة الذين فقدوا بوصلة الطريق، فالتقدمي الطلائعي أصبح شراكاً في نعل الرجعي، والقوى الثورية التقدمية أصبحت شسعاً في نعال القوى التقليدية السلفية، وهكذا التبس المفهوم وضاعت المفاهيم، وفقد المصطلح قيمته ومعانيه، وقد حضر المال فضاعت تحت لمعان بريقه كُـلّ المقاييس والمعايير.
مرّ اليمن في التاريخ المعاصر بما يشبه الحال الذي نحن فيه اليوم، وقد كتب رائي اليمن عبد الله البردوني في مطلع السبعينيات يقول: “الوطنية لا تقيل التوسط.. فليس هناك إلا وطنية كاملة أَو لا وطنية، أما من كان نصفه وطني، فلا بد أن يكون نصفه الآخر عميلاً أَو خائناً، وقد تتغلب نصف العمالة على نصف الوطنية لما للعمالة من أرباح مؤقتة”.
فالمستعمر حين يفكر بغزو بلد ما يبدأ في الاشتغال على المفاهيم والمصطلحات ويقوم بإفراغها من محتواها ومعانيها، ويعمد إلى الهُــوِيَّة فيقوم بتفكيك عراها حتى تتشظى وتتناثر في رمال الوطن المتحَرّكة، فالاشتغال الثقافي للمستعمر يأتي على نسق مواز للغزو العسكري أَو يسبقه حتى يتمكّن من السيطرة على مقاليد الأمور في البلدان، لذلك فحركة الاضطرابات التي سادت المجتمعات خلال العقدين السالفين من الألفية كانت الإيذان بعودة المستعمر، لكن بطرق أكثر ذكاء فهو يأتي حتى يحارب الإرهاب ويجفف منابعه، أَو يأتي دفاعاً عن حقوق الإنسان، أَو لدواع إنسانية حتى يحفظ أمن واستقرار البلدان كما فعل في أفغانستان، فالغزو لم يعد احتلالاً، والمستعمر لم يعد مستعمراً –تعويم المصطلحات والمفاهيم-، ولذلك استطاع أن يجد لنفسه غطاء وتخريجاً مناسباً حتى يمارس غواية الاحتلال للبلدان تحت عناوين كبرى ينساق لها الإنسان بغباء مفرط.
ولعل المعركة الثقافية هي أعقد من المعركة العسكرية وأكثرها خطورة، وهي معركة مُستمرّة يمتد جذرها إلى الماضي العميق وهي اليوم في أوج الاشتعال، وقد شهدنا مرحلة، وعشنا تفاصيلها خلال سنوات العدوان، وهي مرحلة كانت نتيجة لمقدمات منطقية سبقتها في الاشتغال الثقافي، واليوم نقرأ مقدمات يشير إليها نشاط عملاء العدوان، فهم يرون أن المبدعين والمثقفين يحملون رسالة إيجابية للمجتمع ولذلك بدأوا يهتمون بهذه الشريحة ويولونها اهتماماً خاصاً، ولا أرى ذلك قناعة للقوى العميلة بل هو توجّـه يقومون بتنفيذه وفق خطط واستراتيجيات وضعها المستعمر حتى يبلغ غاياته ومقاصده.
فالسخاء في الإنفاق يشكل بيئة جذب لشريحة المثقفين والأدباء في ظل قسوة الأحوال والظروف التي يعيشها المبدع في اليمن، ولذلك أصبح من الضرورة تفعيل دور المؤسّسة الثقافية الرسمية والمدنية والاشتغال على كُـلّ المستويات حتى نخوض المعركة الثقافية بمختلف الأسلحة وعلى كُـلّ المستويات، ولدينا طاقات فكرية جبارة وكبيرة قادرة على الصناعة والإبداع والابتكار.
فالتحالف وصل إلى مرحلة اليأس وهو يبحث عن بدائل وقد شرع في الاشتغال عليها، إذ أن كُـلّ المؤشرات تقول ذلك ودلائلها ذات أثر ملحوظ، ومن الحكمة الوقوف أمام مؤشرات الواقع والتمعن في المعطيات والتفاعل مع الواقع بما يحفظ لليمن بريق الانتصار.