تأتي استقالة بيني غانتس، من مجلس الحرب الصهيوني، لتعيد المشهد السياسي في الكيان الصهيوني لما قبل السابع من أكتوبر، وقد انفرط عقد الوحدة الوطنية الطارئ، الناتج عن صدمة طوفان الأقصى، ليجد نتنياهو نفسه الآن، مجدّداً، وسط حكومة أقصى اليمين.
هل يستطيع نتنياهو الآن التجذيف في هدير الطوفان من دون بحّار ولا ربّان؟
يتراوح تاريخ نتنياهو باعتباره سياسياً مراوغاً، ذي رؤية اقتصادية، بلا ماضٍ عسكري، وهو ما جعله طوال الحرب يستعين بالجنرال غانتس، ومعه الجنرال آيزنكوت، والذي استقال أيضاً، واستقال معهما قائد فرقة غزة؛ العميد آفي روزنفيلد، وقبلهما بشهر ونيف، استقال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أمان؛ أهارون هاليفا، وينوي رئيس هيئة أركان "الجيش"؛ هرتسي هليفي، الاستقالة في المستقبل القريب، ومثله رئيس جهاز المخابرات الداخلي، الشاباك؛ رونين بار.
كثيرون يتحدثون عن الاستقالة في الكيان العبري، من سياسيين وعسكريين، حتى ثنائيّ التوحّش؛ ابن غفير وسموتريتش، يتحدثان دوماً عن الاستقالة إذا تمت صفقة مع المقاومة، وحده نتنياهو لا يأتي على أيّ ذكر للاستقالة تحت كل الظروف، وهو يدير الكيان في أحلك محطاته التاريخية، من دون أن يهتزّ له جفن، ما يشبه حكم ملوك إسبارطة، لهذا يبدو وعيد غانتس بدفع الكيان نحو انتخابات مبكرة سقفها تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وعيداً بلا رصيد.
وعليه ما هي خيارات غانتس بعد الاستقالة المفصلية، وهو صاحب الحظ الأوفر في استطلاعات الرأي، منذ وقعت الحرب؟
تنحصر خيارات غانتس الثورية في تغيير المشهد السياسي الصهيوني، في ثلاثة.
الخيار الأول؛ تحريك الشارع بتظاهرات واسعة ودائمة، قد تصل حدّ الاعتصام المفتوح، وربما الإضراب الشامل، وهو خيار غير مضمون النجاح للأسباب الآتية:
1- سبق أن تحرّك الشارع الصهيوني ضدّ التغلّب اليميني الحكومي على القضاء، وشارك فيه طيف هائل من الليبراليين مدعوم بالسياسيين والشركات والأمن و"الجيش"، ولم يؤدِّ للجم شهية نتنياهو عن ابتلاع القضاء، إلا ما كان من ظروف الحرب، حينما أصدرت المحكمة العليا قراراً بالأغلبية بإبطال بعض التغييرات القضائية.
2- تحرّكات أهالي الأسرى "الإسرائيليين" منذ بدأت الحرب، دونما نتيجة.
3- إشارة غانتس إلى أنه سيلجأ إلى تظاهرات تخلو من الكراهية، ملمّحاً لتظاهرات ميدان كابلان، التي يقودها ذوو الأسرى والمعارضة بزعامة يائير لابيد، والتي تشهد عنفاً مع الشرطة، بما يشير لانقسام مسبّق وسط المعارضة، يبشّر به غانتس، إضافة إلى منحى التظاهر الذي لن يؤثر على مجريات الحياة التقليدية.
الخيار الثاني؛ استثمار الضغط الأميركي والغربي والإقليمي والدولي ضد نتنياهو، وهو ضغط مدعوم بفشل سياسة نتنياهو في غزة ومجمل الجبهات، مع قرارات أممية ومحاكم دولية وجنائية، خاصة في ظل الانسجام الأميركي مع غانتس، ولكن هذا الخيار على أهميته، ظلّ نتنياهو يحتويه طوال الفترة السابقة، وهو قادر بعد استقالة غانتس على أن يواصل الاحتواء، على صعوبته الراهنة، للأسباب الآتية:
1- يسند نتنياهو ظهره على غالبية في الكنيست، وهي غالبية مريحة، ومحرجة لخصومه في الداخل والخارج.
2- مواقف الغرب المسبقة بدعم "إسرائيل" استراتيجياً وفي كلّ الظروف، والخلاف لا يتجاوز إدارة الحرب، بما يصبّ في صالح الكيان.
3- انبطاح منظومة التطبيع الفلسطيني العربي الإسلامي.
4- عدم جذرية المواقف الأممية والجنائية، برغم تغيّرها المهمّ ضدّ "إسرائيل".
بما يساعد نتنياهو ليواصل المقامرة عبر عناد ربما تتخلّله هدنة هشّة في غزة، ليظل قابضاً على المشهد السياسي، ومتنفّذاً في إطالة أجواء الحرب، وبالنتيجة يفشل مساعي غانتس للإطاحة بحكومته.
الخيار الثالث؛ وهو الخيار القابل لقلب المشهد، إن أمكن غانتس استثماره، وهو التوصّل إلى صفقة تاريخية مع وزير الحرب يوآف غالانت، خاصة أن الأخير:
1- يتزعّم كتلة صلبة داخل الليكود، بصفته الرجل الثاني في الحزب الحاكم.
2- منصبه الحسّاس كوزير للـ (الدفاع) في ظل الحرب.
3- خلافه الحادّ مع نتنياهو بخصوص تجنيد الحريديم، حتى أنه صوّت في الكنيست مع المعارضة، ضد إعفاء هؤلاء من التجنيد، وباتوا يشكّلون 15% من المجتمع الصهيوني، خاصة أن هليفي طالب بتجنيد خمس كتائب إضافية، بما يعادل فرقة كاملة، لتعويض النقص الهائل في الجنود، مع اتساع الجبهات، واستعار القتل في "جيشه".
4- خلافه العميق مع نتنياهو بشأن إدارة الحرب، وسياسة الكيان في اليوم التالي للحرب، وخاصة في العلاقة مع السلطة الفلسطينية، ودورها المحتمل مستقبلاً، ففيما يحلم نتنياهو بحكم غزة عسكرياً، فإن غالانت يحلم بتسليمها لطرف فلسطيني مثل أجهزة السلطة، لعدم القدرة على حكمها عسكرياً لسنوات.
5- الخلاف الدائم بينه وبين بن غفير وسموتريتش، وهو خلاف منهجي وشخصي.
6- مواقف غالانت السياسية والأمنية، تحول دون أدنى انسجام بين أطراف الائتلاف الحاكم الثلاثة وهي: الليكود، والتيار الديني التقليدي الحريدي المتمثّل بشاس وديغل هتوراه، وتيار الصهيونية الدينية، المتمثّل ببن غفير وسموتريتش.
يراهن غانتس على غالانت وقدرته على قلب الطاولة فوق رأس نتنياهو، لذا بادر لكيل المديح له ما يلفت النظر، على الرغم من نقد غالانت لهذه الاستقالة، وهنا ربما تأتي تطوّرات الحرب، لدفع غالانت نحو الانفصال التام عن نتنياهو، خاصة مع استبداد الأخير في إدارة الحرب، وهو يتخذ قرارات متناقضة، يعفي الحريديم من التجنيد من جهة، ويصرّ على تحقيق أهداف الحرب، في وقت يواصل فيه انتقاد "الجيش" والمنظومة الأمنية، مع تعزيز الاستيطان برغم الأزمة الاقتصادية.
ويأتي الانسجام السياسي والميداني بين غالانت ورئيس أركان "جيشه"؛ هليفي، مع قادة الشاباك والموساد والشرطة، ليعزّز خيار غانتس هذا، بما يفضي إلى مشهد دراماتيكي في الكيان العبري، حال وقوعه، بانعكاساته الخطيرة على مستقبل الكيان الصهيوني، ولكنه انعكاس يظل في كل أحواله أقل خطورة، من استمرار نتنياهو في سياساته الراهنة، والتي تدفع بالكيان نحو الهاوية بشكل متسارع.