ولد علي -عليه السلام- في الكعبة البيت الحرام، ونال الشهادة في مسجد الكوفة في ليلة التاسع عشر من رمضان ولفظ أنفاسه الطاهرة ليلة الحادي والعشرين من رمضان سنة 40 للهجرة، وأكرم رجل ابتدأ حياته من بيت الله وانتهت في بيت الله وما بينما كانت كل لحظة وكل دقيقة من أجل إعزاز دين الله وتطبيق منهجه الخالد.
غدر به أحد الخوارج الضالين الذي اعتقد أنه قد أحسن صنعا عند خروجه إلى الصلاة، وما أشبه الليلة بالبارحة، ها هم خوارج عصرنا يقتلون الناس في المساجد أيضا وفي مجالس العزاء والجامعات والساحات العامة، إنهم يبتغون الجنة بقتل المسلمين الأبرياء ومطايرة رؤوسهم وأشلائهم، كما هو جدهم ابن ملجم أشقى الآخرين الذي ابتغى القربة إلى الله بقتل سيد الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين تعمّد قتله في ليالي القدر ليعظم أجره.
لا أستبعد أن ما يحدث اليوم من تفجيرات انتحارية تقتل المسلمين في المساجد والأسواق والساحات العامة لهو مشابه إلى حد كبير ما حدث لأمير المؤمنين -عليه السلام، حيث تم تجنيد أحد التكفيريين لقتله غيلة وغدرا وخيانة من قبل الأشعث بن قيس الكندي الذي مثّل دور عبدالله بن أبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك دلائل تاريخية ترجح أن المسرحية الهزيلة التي تحكي قصة خوارج اجتمعوا في مكة وعقدوا العزم على اغتيال علي ومعاوية وابن العاص كانت نوعا من التغطية على الحدث المجلجل؛ لأنها فشلت تماما في من يتصل بحكومة معاوية، ولأنه سبق التهديد من قبل الأشعث الكندي لعلي قبل الحادثة، ولأن ابن ملجم نزل في ديار كندة، ولأن حجر بن عدي الكندي سمع الأشعث وهو يحث ابن ملجم على سرعة تنفيذ جريمته قبيل وقوعها، ولأن عبقريا من عباقرة الإسلام وصاحب ذهنية تقديرية عالية حمل مسؤولية قتله على معاوية مباشرة، وهو أبو الأسود الدؤلي، ولأن عليا -عليه السلام- كان يذكر في شعر صح نسبته إليه أن قريشا هي التي تتمنى قتله، والخوارج لم يكونوا من قريش، ولأن ابن ملجم ليس لديه المال الكافي للحاجيات المالية التي صاحبت عملية الاغتيال، فلا يستبعد أبدا أن قريشا جنّدت تكفيريا من الخوارج لقتله وزودته بالمال الكافي عن طريق عميلها في الكوفة وهو الأشعث بن قيس، كما يفعل الطغاة والمستكبرون اليوم حيث يجنّدون هؤلاء التكفيريين بطرق ملتوية لقتل المسلمين غيلة وغدرا ليتم تنفيذ مخططاتهم في ضرب المسلمين ببعضهم.
المؤسف أن يتم امتداح هؤلاء المجرمين على أنهم ينفذون أعمالا جـهادية يؤجرون عليها كما تقوم بترويجه منابر الفتنة وشيوخ الضلالة وقنوات التضليل، تماما كما فعل شاعر الخوارج وعالمهم عمران بن حطان الرقاشي ليتغزّل في تلك الضربة التي قتلت عليا -عليه السلام- غدرا وخيانة ويعتبرها أعظم إنجاز يستحق الأجر والثواب عند الله، رغم أنها أودت بإمام الأمة وباب مدينة العلم ومن هو مع الحق والحق معه، ومن أحب الله وأحبه الله، ومن هو من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة، لقد قال عمران فيها:
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
وللأسف الشديد فإن طائفة المحدثين والرواة المؤتمنين على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبوحي من تأثير السلاطين الظالمين قبلوا رواية عمران بن حطان وأضرابه من المنافقين والفاجرين، وكيف لا يكون عمران منافقا والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي عليه السلام: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، لقد حكم الإمام البخاري صاحب الصحيح (ت256هـ) وغيره من المحدثين بعدالة عمران بن حطان المنافق بنص الرسول، وترك الرواية عن الإمام المجمع على عدالته وهو جعفر الصادق بن محمد الباقر، ولا زالت الأمة تعاني اليوم من هذا الخلل الفكري والتاريخي وأشباهه الذي أدخل الفساد على أهم مصادر التشريع، ولوّث المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وهاهم أحفاد عمران بن حطان اليوم يكفِّرون ويجرحون أئمة آل البيت وغيرهم من المذاهب الإسلامية سواهم، ويحكمون عليهم بالضلال وفي نفس الوقت يتملقون قوى الاستكبار العالمي ولا ينبسون ببنت شفة حول ما يجري من ظلم وطغيان ضد المسلمين، بل فقط يوظفون جهودهم الجبارة ضد إخوانهم المسلمين، والتحريض على قتلهم وقتالهم.
أوصى الإمام علي -عليه السلام- بنيه إن قُتل فضربة لابن ملجم بضربته، ونهاهم عن المثلة، وأمرهم أن يطعموه ويكسوه، وأن يحلوا قيوده حين يريد الصلاة إنصافا منه له رغم علمه أنها لا تنفعه، وبعد مقتله صلوات الله عليه ودفنه خرج الحسن بن علي إلى المسجد الجامع، فخطب خطبة له طويلة، ودعا بعبدالرحمن بن ملجم فقال عبدالرحمن: ما الذي أمرك به أبوك؟ قال: أمرني ألا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك، وأنعم وطاءك، فإن عاش أقتص أو أعفو، وإن مات ألحقتك به، فقال ابن ملجم: إن كان أبوك ليقول الحق ويقضي به في حال الغضب والرضى، فضربه الحسن بالسيف فالتقاه بيده فندرت، وقتله.
وهكذا هم اليوم يعلمون أنه الإمام العدل ولكنهم يوالون أعداءه، تأمرهم الأحاديث التي يروونها هم قبل غيرهم باتباع آل المصطفى لكنهم يلوون أعنتها ويتلعبون بها كما يشتهون، كما فعل أشياعهم من قبل، فقد روى معاوية وعمرو بن العاص الحديث الذي أخرجه البخاري نفسه: (يا عمار تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار)، كما ذكر ذلك المؤرخ نصر بن مزاحم المنقري في كتابه صفين، ثم لما حوججوا به من قبل ذي الكلاع الحميري تلعبوا بدلالته، وقال معاوية: (قتله من جاء به)، وحينها يتحمل رسول الله مسؤولية مقتل عمه الحمزة -عليه السلام- ويبرأ عتاة قريش منها.
حين ضُرب -عليه السلام- صاح بها مدوية: (فزت ورب الكعبة)، وهكذا يجب أن يكون أتباعه يتبعون الحق ويبحثون عنه ويتخذون المواقف المنطلقة من الفهم الصحيح للحق، من القرآن والسنة الصحيحة، لا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، ولماذا إذن يخافون من قول الحق وهم إنما يبحثون عن الآخرة ولا تعنيهم أحوال الدنيا؟ ولعل أعظم أبواب الآخرة قدسية للعبور إلى رضوان الله في جنات النعيم حيث الحياة الخالدة والمكانة الرائدة هي الفوز بالشهادة، التي تعني الحياة الأبدية والفرح والسرور الأبديين، الشهادة التي تؤسس للأجيال وللأمة العزة والكرامة وتمكّن دين الله ومنهجه ليكون خفاقا في جميع الأرضين.