بتتبُّعٍ بسيطٍ لأحداث الثورة يتبينُ لنا أن أهدافَ ومطالِبَ الثورة وغاياتِها كانت أكثرَ من تلك الأهداف والمطالب الثلاثة المعلنة، كما يتضح من النقاط التالية:
– في 9 مارس 2014م في أربعينية الشهيد الدكتور أحمد شرف الدين قال السيد القائد في كلمة متلفزة: إن عدم تحَرّك الحكومة بشكل جدي لملاحقة المجرمين “يكشف طبيعة الوضع الأمني السيء الذي وصل لدرجة فظيعة جِـدًّا، وأنه يثبت فشل الحكومة على كُـلّ المستويات”، وخلص إلى أن حكومة لا تؤدي وظائفها بالشكل المطلوب فتغييرها ضرورة، ومطلب للشعب الذي يخرج كُـلّ أسبوع منادياً بالتغيير”.
– كان السيد القائد يوقن أن هناك استهدافاً شاملاً للشعب، ومن ضمنه الاستهداف الاقتصادي، وإثقال كاهل أبناء الشعب بالأعباء المعيشية والاقتصادية، ولهذا قبل 3 أشهر من فرض جرعة المشتقات النفطية، أي عند تسريباتها، حذّر السيد عبدالملك بأن “أي جرعة اقتصادية جديدة برفع أسعار المشتقات النفطية أَو غيرها من الاحتياجات الأَسَاسية للشعب يعتبر جريمة كبرى واستهدافا عدوانيا، وندعو إلى تحَرّك شعبي ضد أي خطوة من هذا النوع”.
– يوم الثلاثاء، 5 شعبان 1435هـ الموافق 3 يونيو 2014م خطب السيد عبدالملك الحوثي قائلاً: “نتحدث في هذا المساء عن مرحلة حساسة، وعن ظرف مهم، وعن أحداث ذات طابع تآمري تستهدف شعبنا اليمني المسلم”، واستطرد موصفاً الوضع العام للبلاد سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، قائلاً: “تتزامن هذه الأحداث [أي أحداث عمران] مع استهداف اقتصادي، يتمثل في رفعٍ للأسعار في أزمة للمشتقات النفطية، في حالٍ من الفشل الذريع للأداء الحكومي على كُـلّ المستويات، تدهور اقتصادي فظيع، اختلالات أمنية غير مسبوقة، واقع مرير يعيشه شعبنا اليمني على كُـلّ المستويات”. وهو هنا يشير إلى الوضع الذي شرحه لاحقا بشكل كثير وهو أن البلد كان في طريقه إلى الانهيار الشامل، وبالتالي فأول أهداف الثورة يجب أن يكون منع هذا الانهيار.
– لقد كان قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية القشة التي قصمت ظهر بعير الفشل والانهيار الماضي في البلد بقوة الدول العشر، ولهذا استيقظ الشعب في 30 يوليو 2014م على قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية في يوم عطلة عيد ظنا من أهل القرار أنهم بذلك يستغفلون الشعب، ويمكنهم تمريره على حين غرة تسلُّلا في الأوقات الضائعة، وهذا يشير إلى غباء الطبقة الحاكمة بأمر الدول العشر، وأنها لم تفهم شعبَها الذي بات يتوثَّبُ ثورةً ونشاطاً وتغييراً.
– تحَرّك أنصار الله بشكل سريع في الرد على هذا القرار، ففي ذلك اليوم 30 يوليو أعلن المجلس السياسي لأنصار الله بياناً رفض فيه جُرعةَ الحكومة، واعتبرها حرباً تُشَنُّ بشكل رسمي على الشعب، وتنكُّرًا لتضحياته في فبراير، مشدّدًا على ضرورة الاستمرار في الفعل الثوري، والاحتجاج الهادف والمشروع لنيل الحرية والكرامة لجميع المواطنين، محذراً من سياسة الجرع التي تنحدر بالبلاد إلى مستنقع الفقر والبطالة، وما في ذلك من خطر على الأمن والسلم الاجتماعي. ومن خلال هذا البيان يظهر عزم أنصار الله على تحقيق أهداف الحرية والكرامة لهذا الشعب والوقوف ضد كُـلّ إجراءات استهداف الشعب وإفقاره.
– ثم خرج السيد القائد بعد يومين من إقرار الجرعة لدعوة عامة الشعب إلى الخروج المشرِّف في مسيرة الإنذار للحكومة، وقال: “إنني أتوجّـه إلى شعبنا اليمني العظيم الحر الأبي، الذي يمكن أن يُعَوَّلَ عليه أن لا يَقْبَلَ بظلم الظالمين، ولا فساد المفسدين، ولا طغيان الطغاة والمتنفذين، ليخرج يوم غد خروجا مشرفا، ويُسْمِع صوته كُـلّ العالم، ويحتشد في الساحات ليقول: (لا لا) لهذه الجرعة”، ولما كانت هناك حرب صهيونية على غزة فقد دعا في ذات الخطاب الثوري الأول إلى مناصرة شعب فلسطين المظلوم، “والتأكيد على أن إسرائيل هي العدوّ الحقيقي والخطر بكل ما تعنيه الكلمة، وأن عدوانها الثالث على غزة باعث لإدراك طبيعة الصراع في المنطقة”. وهذا يبين أن ثورة 21 سبتمبر أخذت على عاتقها من أول يوم مناصرة قضايا الأُمَّــة، وأولها القضية الفلسطينية؛ باعتبَار ذلك واجباً دينياً وقومياً والتزاماً أخلاقياً، وهو يعكس أهدافها على مستوى البعد الإسلامي والعربي.
– ذكر السيد القائد في ذلك الخطاب أَيْـضاً أن شعوب المنطقة عرضة للاستهداف في كُـلّ مجالات الحياة، ومنها الجانب الاقتصادي، ومن هنا كان مدخله إلى الأزمة المستجدة في اليمن، معتبرًا خطوة إقرار الجرعة ليست بريئة، بل جاءت في سياق الاستهداف الخارجي لمكامن القوة لدى الشعوب، متسائلًا عن السياسة الاقتصادية التي تبني اقتصادًا صحيحًا وعن التنمية الحقيقية.
– خرج الشعب في مسيرة الإنذار في الـ4 من أغسطُس 2014م تلبية لدعوة السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي بما يفوق التصور وبشكل جماهيري حاشد في غالبية المحافظات الشمالية، وكان الخروج الجماهيري يوم الإنذار بذلك الشكل الكبير بمثابة استفتاء على قيادة السيد القائد للثورة التي بدأت أحداثها للتو وبدأت خطواتها الحاسمة، على حَــدّ قول الكاتب الأُستاذ علي شرف المحطوري.
– أطل السيد القائد مساء الأحد، 17 أغسطُس 2014م وكانت أول جملة تتضمن كلمتين تختصران كُـلَّ الخطاب، هما كلمتا (ألم وأمل)، حين قال: “نتحدث في هذه الليلة ونتوجّـه إليكم ونحن نعيش الألم والأمل، نتحَرّك بدافع الشعور بالمسؤولية، نتحدث حديث الشعب، لنقول كلمة الشعب، ونتوجّـه بتطلعات الشعب وآمال الشعب ومطالب الشعب”. ولم ينس السيد القائد التذكير بموقف اليمن المتميز من العدوان على غزة، وكونه الشعب العربي الوحيد الذي خرج انتصارا لغزة ورفضا للعدوان الصهيوني عليها، وقال عن الشعب: إنه “في مثل هذا الظرف لن ينسى فلسطين، وستظل القضية الفلسطينية حاضرة في تحَرّكه، وفي خروجه العظيم أيضا”.
– وقال عن طبيعة تحَرّكه إزاء الثورة: “إننا نعبر عن شعبنا كُـلّ شعبنا، بكل فئاته، بكل محافظاته، بكل تياراته، عن شعبنا اليمني المظلوم بكله الذي يعاني الويلات”، وأوضح السبب العام من الناحية الاقتصادية بقوله: “بقيت حالة التدهور الاقتصادي مُستمرّة، وأُولئك مشغولون دائماً بتسوية أوضاعهم، وليس بتسوية أوضاع الشعب، وليس بالالتفات إلى هموم ومعاناة الشعب”. وهذا يبين أن الثورة وأهدافها هي ثورة لكل الشعب وأن الهدف الاقتصادي يأتي في المقدمة.
– وذكر السيد في هذا الخطاب أن القوى السياسية لم تثبت أنها حامل حقيقي لهموم هذا الشعب وآماله، وأنه لم يعد هناك أمل في تلك الحكومة، وأنه لم يبقَ إلا التحَرّك الشعبي، وكرّر ذلك أربع مرات. ودعا الشعب إلى التقاطر إلى العاصمة صنعاء.
– وعلى ضوء ذلك، تقاطرت جموع الشعب في يوم الاثنين، 18 أغسطُس 2014م إلى صنعاء وهي تحمل الأهداف الثلاثة (إسقاط الحكومة، وإلغاء الجرعة، والبدء بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني)، وأمهلت السلطة مهلةً محدّدةً بخمسة أَيَّـام حتى يوم الجمعة المقبل يتلوها تصعيد.
– وخطب السيد القائد في تلك الجموع الثورية المتدفقة في صنعاء يوم الخميس 21 أغسطُس، وكانت القضية الفلسطينية حاضرة هذا الخطاب الثوري الثاني ودعا إلى أن تكون الجمعة التالية للتضامن مع غزة، كما هي تتويج للأيام الماضية من تصعيد ثوري وافتتاح للمرحلة الثانية.
– في يوم 26 أغسطُس أطل السيد عبدالملك في خطابه الثوري الثالث لإعلان استكمال بقية الخطوات ضمن المرحلة الثانية من التصعيد الثوري، وقد افتتح خطابَه بمباركة للفلسطينيين فرحتَهم بفشل العدوان على غزة، وهو أمر يعكس البُعدَ الإسلامي والعربي في ثورة 21 سبتمبر والتزامها بذلك، بل واعتبر صمود غزة يمثل حافزا للشعوب المضطهدة لمواصلة مواجهة النظم المستبدة.
– إن التزامَ الثورة بمناصرة القضية الفلسطينية من أيامها الأولى يعتبر هدفًا مهمًّا وأَسَاسيًّا من أهداف هذه الثورة، وإن لم يكن هذا الهدف معلنًا بشكل مطلب ثوري جماهيري، لكنه هدف يشير إلى انسجام أهداف ثورة 21 سبتمبر مع أهداف المسيرة القرآنية في مجملها.
– غير أن المهم أن السيد القائد في ذلك الخطاب وهو يتحدث عن تطورات الثورة ويؤكّـد أن الخطوات التصعيدية مثلت إقلاقًا وإزعاجًا لمن أسماهم “الشلة الفاسدة”، ذكر السيد كلاما مهما يبين عمق أهداف الثورة، وماهيتها وطبيعتها، حَيثُ يقول: “المسألة لم تعد مسألة جرعة”، وإنما استقلال وكرامة، والحكومة لم تعد مؤتمنة على ذلك.
– في 22 أغسطُس أدان مجلس التعاون الخليجي إجراءات التصعيد الثوري، وأعلن مجلس الأمن الدولي والدول العشر لاحقا أنهم يقفون خلف سلطة هادي ضد الثورة، وهذا بيّن إلى حَــدّ كبير للجماهير الثائرة مصداقية ما ظلت أدبيات الثورة تردّده من أن هذه الحكومة غير وطنية، وأنها عبارة عن قفاز للأجنبي، وفي ذات الوقت أكّـد بشكل واضح أنها ثورة تمضي في طريقها الصحيح، وأنها وطنية حتى النخاع، بدلالة وقوف أعداء اليمن التاريخيين كالسعوديّة وأعداء الأُمَّــة كأمريكا ضدها.
– في خطابه الرابع بتاريخ 31 أغسطُس أكّـد قائد الثورة أن هذه المظاهرات الشعبيّة لا تخص فئة من الشعب، بل هو الشعب تحَرّك لاستعادة كرامته المهدورة، وهنا يظهر أن الموضوع أعمق من مُجَـرّد مطالب قد تبدو عادية من الوهلة الأولى، ويبين أن استعادة الكرامة المهدورة هدف عظيم من أهداف هذه الثورة العظيمة.
– وكعادة الثورات مع السلطات التي استنفذت تاريخ صلاحيتها، فقد تراجعت السلطة بتخفيض 500 ريال فقط من الجرعة، لكن الثوار ازدادوا تصلُّبًا وقوةً، بل وأغراهم ذلك على مواصلة مشوار التغيير حتى النهاية.
– في ثلثَي شهر سبتمبر الأوليين تزامنت مع أحداث الثورة المدنية السلمية تطوراتٌ عسكريةٌ حاولت استهدافَ المتظاهرين والفتك بهم، وأشعل الإصلاح والموالون لجنرال الفتنة علي محسن الأحمر نارَ الفتنة في وادي ضهر القريب من صنعاء، سرعان ما امتدت شرارتها إلى صنعاءَ، كما ارتكبت السلطةُ العميلة عدداً من المجازر في شارع المطار، وبالقرب من مجلس الوزراء، وهو الشيء الذي حذّر من الوصول إليه السيد القائد في خطاباته السابقة، ولا زال الشعب يتذكر كلماته (حذارِ حذارِ حذارِ) من أي استهداف للثوار المدنيين؛ الأمر الذي أوجب التحَرّك عسكريًّا للدفاع عن الثوار وعن الشعب أمام حالة الغطرسة والاستكبار، ومن حسن الحظ أن حُسِمَت المعركةُ العسكريةُ بشكل خاطِفٍ ومذهلٍ في غضون أَيَّـام قليلة، سقط على إثرها أهمُّ قلاع العمالة للأمريكان والسعوديّين ممثلةً في الفرقة الأولى مدرَّع، وما لبثت المؤسّساتُ والمنشآتُ الوهَّـابية أن تساقطت كأحجار الدومينو بيد الثوار، وسقطت حكومةُ باسندوة بشكل تَبَعي.
– في 23 سبتمبر أعلن السيد القائد خطاب النصر ووصف ثورة 21 سبتمبر بأنها ثورةٌ بامتيَاز على غرار الثورات الناجحة التي تُصْنَعُ لكل الشعب، وأعلن أن الشعبَ منتصر، وأنه لا إقصاء ولا استئثار ولا استبداد لبعض على البعض الآخر، وذكّر باتّفاقية السلم والشراكة التي كان قد وقَّعها الثوار المنتصرون مع بقية القوى السياسية المهزومة، كتطبيق عملي لأهم أهداف وشعارات الثورة، وهو أن لا إقصاء ولا استبداد، وذكر السيد عنه أنه اتّفاق وطني وصيغة سياسية وعقد جديد يبنى عليه بناء حكيم، وبينان يمني أصيل تدار به شؤون اليمن.
وبهذا العرض التاريخي الموجز يتبينُ أن أهدافَ الثورة كانت أهدافًا عظيمةً ومشتقةً من أهداف المسيرة القرآنية، وأنها تدورُ حولَ حرية وكرامة واستقلال هذا الشعب، واستعادة قراره السليب، ومنع انهياره الشامل، واستنهاض إمْكَاناته ومقدراته للوصول إلى الحالة الحضارية المطلوبة والمقصودة.
وللحديث بقية في الحلقات القادمة.