ورد على لسان أحد مسؤولي البيت الأبيض – في سياق بيان صحفي يوضح للرأي العام أسباب زيارة الرئيس الأمريكي منطقة الشرق الأوسط – قولهم “البيت الأبيض يتطلع إلى سلام أكثر وحروب أقل في المنطقة العربية”، وهذا عنوان عريض ومطاطي يبدو أنه كان من نتائج التطورات العسكرية للصراع في جزيرة القرم , فالحروب المشتعلة في المنطقة العربية كانت تجري وفق استراتيجيات واضحة المعالم والأهداف , وهدفها لم يكن خافيا على أحد ,وهو إعادة رسم الخارطة بما يتسق ومصالح النظام الدولي ,ويحقق الاستقرار ,وتدفق المصالح بسلاسة , ووفق الاستراتيجيات فإن رسم الخارطة – التقسيم- كان يرتكز على أسس طائفية ,وثقافية ,وعرقية , بحيث تصبح إسرائيل ذات مركزية ووجود يستند إلى شرعية بدون تشعبات وتنازعات..
جاء الصراع على جزيرة القرم ,وجاء الصراع المسلح في أوكرانيا , فقلبا خارطة التوازنات الدولية لمجوعة السبع ,وقد ترك ذلك ظلالا قاتمة على الحركة الاقتصادية والاجتماعية للاتحاد الأوروبي وعلى أمريكا , فحدثت أزمة الطاقة والغاز ,ومثل ذلك أحدث خللا في جدار النظام الدولي الأمر الذي جعل البيت الأبيض يعيد حساباته باحثا عن بدائل للغاز الروسي ,والنفط الروسي ,وخلال زمن الصراع توصل البيت الأبيض إلى فكرة ” سلام أكثر وحروب أقل ” في منطقة الاشتعال التي ظل يديرها بالحروب ,وبالصراعات ,وبالجماعات الإرهابية الاستخبارية على مدى عقدين من الزمن أو أكثر..
زيارة الرئيس الأمريكي اليوم للخليج ولإسرائيل تأتي في سياق مختلف ,فهي تحاول تدشين مرحلة جديدة من التفاعل والتعامل، لكن مثل ذلك أصبح في واقع الحال الجديد أكثر تعقيدا من ذي قبل , فروسيا والصين تصارعان اليوم ,وهما يعملان بجد واجتهاد في سبيل توطين واقع جديد متغاير كل التغاير عما كان عليه الحال في العقود الماضية التي تفردت فيها أمريكا ومجموعة السبع في إدارة المصالح الدولية , فخفض نسبة التوتر في المنطقة العربية قد يحمل نفعا للشعوب ,لكن من المؤكد أنه لن يحمل نفعا لأمريكا التي بات وجهها القبيح مكشوفا للشعوب العربية بكل قذارته وبكل قبحه , فسياسة أمريكا أصبحت أكثر وضوحا اليوم , ولذلك فخوف أمراء الخليج من إيران سوف يجعلهم اكثر قربا من روسيا بعد أن شعروا بفقدان الثقة من مواقف أمريكا خلال زمن الصراع , ولذلك فإن من ضمن المهام للزيارة الأمريكية طمأنة أمراء الخليج ,وهذا أمر لا أراه إلا متعذرا في ظل المد الروسي ,والتكتل الدولي الجديد الذي يصطف إلى معسكرين :
– المعسكر التقليدي الذي يضم مجموعة السبع بقيادة أمريكا .
– أما المعسكر الثاني فهو في طور التشكل، ويضم الدول التي تعلن عن نفسها كقوة ناشئة اليوم , وهي: روسيا والصين والهند ومن سوف يعلن اصطفافه معهم وفق ما تمليه المصالح العامة للدول..
ولذلك أعلنت روسيا زيارة موازية سوف يقوم بها الرئيس الروسي تبدأ من إيران مع ما تمثله ايران من امتداد في محور المقاومة الإسلامية الذي كاد أن يشمل عدة دول تشكل في مجموعها حزاما أمنيا ضاغطا على مصالح أمريكا ومن شايعها في المنطقة العربية .
هذا الصراع الذي يبدو اليوم ظاهرا في العلن بين مجموعة السبع وروسيا والصين سوف تكون نتائجه على المنطقة العربية ملموسة في خفض نسب التوتر ,وتحقيق الاستقرار النسبي في اليمن ,وفي سوريا ,وفي ليبيا في حال قد يشبه الحال الذي عليه العراق , لكنه لن يحقق سلاما شاملا وعادلا , إلا في حال توفرت قيادات سياسية واعية , وقادرة على صناعة التحولات في حياة الشعوب , ومثل ذلك متعذر في ظاهر الأشياء إلا إذا تدخلت المشيئة الإلهية ,وأحدثت تحولا خارقا وقاهرا عند ذلك تحدث المعجزات في حياة العرب والمسلمين..
ذلك أن لدى كل الجماعات العربية ذات التوجه الديني- السياسي، وهي القوى الفاعلة سياسيا واجتماعيا بعد أن تراجعت القوى التقدمية والطلائعية – نتيجة قصور في فهم الواقع السياسي العالمي- وتتنازعها في ذلك الأهواء ,ومبادئ التسليم المطلق للقناعات ,والمعتقدات , وأحيانا للميتافيزيقا التي لا تبني التحرك على أسس علمية واضحة المعالم والأهداف , فالكثير من الجماعات تذهب إلى حركة الحياة دون تسلح بفكرة العالمية , فهي تريد من العالم أن يكون مثلها دون أن تخاطب العالم من حيث هو ككيان مستقل خاضع لمنطق الأشياء , فالإسلام لم يكن حالة إلغاء فقد تفاعل مع الفرس والروم كحضارتين قائمتين في زمنه تفاعلا حرا وإيجابيا ترك أثرا على الحضارة الإنسانية كلها , ولم يؤثر عنه أن ألغى ثقافات الشعوب بل قاد حركة إصلاح للثقافات وللأخلاق ,وتفاعل مع المجتمعات ,واستفاد من تجارب الشعوب ,وتجارب الحضارات الكائنة في ذلك الزمن , وحين تقوقع في دوائر الذات وانغلق على نفسه فقد تأثيره , وانحسرت مكانته , وأصبح دويلات منقسمة ومتحاربة ومستعمرة..
عودة الإسلام إلى الصدارة ترتبط ارتباطا منطقيا بالإصلاح الثقافي والأخلاقي والتاريخي , وهذا الإصلاح يرتبط بالعلوم الحديثة وأسس التحليل العلمي , فالتاريخ العربي تاريخ مزيف وغير منطقي , وقراءته قراءة علمية محايدة وموضوعية قد تعيد الكثير من الأشياء إلى نسقها الطبيعي ,أما القراءة التي ترتبط بالقناعات والتصورات الذهنية المسبقة فهي التيه والضياع بعينهما..
الاستراتيجية التي أشار إليها بيان البيت الأبيض “الكثير من الاستقرار والقليل من الحروب ” لم تكن حالة اعتباطية، بل هي حالة مبنية على الوعي الكامل بالتاريخ العربي ,وهو تاريخ صنعته الذات الممزقة التي تبحث عن الأمجاد الشخصية من بين ركام الأحداث منذ عصر انهيار الدولة العباسية إلى يومنا المشهود .