في مثل هذه الأيّام تتعدد الاحتفالات الشكلية، ويبلغ التمجيد مبالغ لا يفترض له بلوغها؛ لأَنَّها تسير على ذات النهج الذي كان في سالف أيامنا فأفسد ما هو كائن، حتى خرجت الجماهير في يومها المشهود فسالت الدماء واضطربت الأحوال، وفسد النظام العام والطبيعي في حياة الشعوب، فوجد المستعمر نفسه يدير معركة وجوده معنا، ونحن في غفلة تائهون لا نعرف من أمرنا سوى عبارات التفرقة والضياع، وسلوك التوحش والغابية في التعامل مع بعضنا بعضاً، فشاعت لغة التضليل، وتعددت عصابات النهب والسرقات في الطرقات، وظهرت الحرابة، وتفشى القتل في الشوارع والطرقات، فالمرء قد يقتل لمُجَـرّد القتل أَو بسَببِ خلاف بسيط على وسائل التواصل الاجتماعي، حدث مثل ذلك في شوارع صنعاء على شكل ظواهر غير دائمة، وهو يحدث وبشكل دائم ويومي في عدن وتعز، وفي الجنوب اليمني على وجه العموم، ومثل ذلك يضعنا أمام سؤال اللحظة الثورية التي يفترض بها أن تتجاوز فكرة الحشد الجماهيري إلى فكرة النقد والتقييم والبناء، فالجماهير التي خرجت ترفض واقعاً في حركتها عام 2011م، وفي ثورتها عام 2014م، تريد اليوم واقعاً أصح وأجمل، ولذلك فالتظاهر أصبح عتاباً جماهيرياً أكثر منه تأييداً وشعاراً، وهي تنشد أحلامها من بين الكلمات، فالحلم حين يصبح فكرة، والفكرة حين تصبح مشروعاً، وقتئذ تصبح هناك ثورة، أما التظاهر فهو جرس إنذار لا بُـدَّ أن نسمعه جيِّدًا، ونعتبر من قصص لتاريخ ومن وصايا أرباب الدول الذي كابدوا الحياة وساسوا الجماهير فلم تكن الغفلة إلا جرساً يعزف ملامح الزمن وتغيره وتبدله.
فالثورة اليوم تصل عامها الثامن ولم تعد تحتاج خروجاً مشرفاً بل تحتاج أفكاراً حياتية مشرفة، تحتاج تظاهرات فكرية، وندوات نقدية، وإصلاحات ومقترحات واستراتيجيات، وبرامج ومبادرات اجتماعية، تحتاج وعياً يتسق ومفردات الحرية والاستقلال في أبعادهما الدلالية.. الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، تحتاج فلسفة تتسق وتطلعات الجماهير وأحلامها، تحتاج تنظيماً واعياً متنامي الأبعاد والأطراف، تحتاج مساواة وعدلاً بين الجهات والمؤسّسات وعموم الناس وليس تمايزاً، تحتاج تفعيلاً للمؤسّسات ووفاء بالوعود وبالتصريحات، لا نكوصاً واستهلاكاً إعلامياً، هناك من التجارب ما يغني ويمنع، فلا نقع في خطأ كنا نراه خطأ ولا نراه اليوم كذلك وقد وقعنا في خيوطه العنكبوتية.
وحتى نصل إلى مراتب النجاح لا بُـدَّ أن نصغيَ للآخر، نصغي لفكره ولرؤيته ولفلسفته فنضع الكل في ميزان العقل، وميزان المنطق السليم، ومن ثم في ميزان المصلحة المرسلة للوطن، بعيدًا عن الأنا التي تضلل دائماً وتفرض شروطاً قد تكون قاتلة كما نرى ذلك في القصص والعبر حين نتأملها في القرآن الكريم وفي التاريخ أَو في تاريخ المراحل القريبة.
نحن اليوم على محك التجارب وليس من المستحسن الإطراء للحدث وتمجيده، فالإطراء تضليل وضياع، وقد رأينا في ماضينا القريب كم هو ممقوت، ولكنا نحتاج اليوم إلى التواصي بالحق وفق منهجية القرآن التي أسهب في بيانها وتوضيحها السيد العلَم/ عبدالملك الحوثي قائد الثورة في العديد من محاضراته، هذا التواصي هو السبيل للنجاح، إذَا كانت كلماتنا صادقة لا تشوبها من أنانيات الحياة ومصالحها شائبة، فهي ستكون كالشجرة المثمرة الباسقة التي تؤتي أُكُلَها كُـلَّ حين بإذن ربها، أما الكلمات الخبيثة فلن يطول بها الأمد حتى تحترق في تجارب التفاعل اليومي، فالنفاق تزلف وفساد، وفطرة الله لا تقبله، فالله لا يحب عمل المفسدين، ولذلك يفضحهم مهما طال بهم الأمد، فالله يمهل ولكنه لا يهمل.
قيل إن ملوك فارس كانوا يتواصون بمثل هذه الوصايا كما وردت في كتب الأخبار وبعض كتب التاريخ القديم: “يا بني.. لا تأمن غفلة اثنين: الزمان والناس، سكون الدهر استجماع للوثوب، وهدوء الناس استعداد للخروج، إذَا سكنت الدهماء سقط الوزراء”.
وفي تعليق للبردوني يقول: هذا النوع من الوصايا القديمة يدلنا على أن الجماهير الشعبيّة يقظة المراقبة على الحكام، وَإذَا هدأتها حالات، هيجتها حالات”.
ويقول أَيْـضاً: “لأَنَّ الزمان حركة فهو تبدل، ولأن التبدل تطور وزيادة فمفروض على الخلف التفوق على السلف؛ لأَنَّه يملك تجارب من قبله وخصائصه الذاتية”.