منذ عام 2011م أصبحت اليمن كالقَصْعَةِ التي يتداعى عليها أكلتُها، بل أصبحت مِضماراً لتصفيةِ الحسابات بين الخصوم في الإطارِ الإقليمي أَو الدولي، فالصراع الذي يلبس العباءة الخليجية أصبح يفصح عن نفسه في المئزر اليمني، فقطر ترى في الإخوان يداً تدافع عنها، والإمارات اشتغلت على مسار الطغمة، والسعوديّة تبحث عن نفسها في ثوب السلفي، وأمريكا تصارع مشروع الصين وإسرائيل تريد فرض وجودها وأمامَ مثل ذلك الاشتغال تغيب اليمن كوطن، وكمعنى، وكحضارة، وكتاريخ، وكمشروع، لتبدو لكل متأمل حصيف حالة مضمارية بأفق من الفراغ القاتل، أي أن الذي يحدث باليمن لا يعدو عن كونه حالة من حالات التيه التي تصيب الأمم في مراحل تاريخية مفصلية إما عقاباً لتصويب حالة انحرافية، أَو تهيئة لمرحلة مختلفة في تفاعلها الجيوسياسي والديمغرافي، ويبدو لي من خلال القراءة التأملية لمجريات الأحداث التي واكبتُ أحداثها -كتابةً وتأملاً- منذ تفجرها في 2011م أن اليمن تتعرض لحالة فرز وتمايز وتدافع، دفعاً لفساد قد حدث، وبغية التهيئة لها لاستعادة دورها الحضاري والتاريخي، وذلك ما يبدو لي من بين غيوم الأزمة ودخان العدوان وحالات الابتلاء بالفقر والجوع والخوف ونقص الأموال والثمرات، وتلك الرموز تحمل بين وجعها العلامات بالبشرى وفق فطرة الله وقانونه الذي وضعه في كتابه لعل الناس يرجعون إليه، إذ أنهم ابتعدوا عن مقاصد الحق والخير والعدل، ومالوا بفطرتهم إلى الطاغوت، وقد زاد يقيني بتلك العلامات والرموز من خلال شلالات الإيحاءات التي يحملها الواقع اليوم.
وأمام كُـلّ تموجات اللحظة تبدو الحاجة إلى عودة الحلقة المفقودة إلى مكانها الطبيعي في المسار من ضرورات اللحظة التاريخية الفاصلة، وتلك الحلقة تحتاج وعياً بها، لا قفزاً على حقيقتها وفق طاقات انفعالية مدمّـرة، فخط قريش يعود إلى نفس مساره الثقافي والاجتماعي والسياسي التاريخي، فإذا كان هذا الخط في زمن التكوين وهو القرن الأول الهجري قد تناغم مع اليهود في حركة مقاومتهم ومقارعتهم للإسلام ونتج عنه ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالإسرائيليات، وهي منظومة أحاديث مكذوبة أبدعها الخيال اليهودي، وتناغم معها الاستبداد السياسي السفياني والأموي.
وبالعودة إلى التاريخ نجد تعاضداً بين السفيانية واليهودية في زعزعة استقرار المجتمع، وفي حركة الاغتيالات التي نالت من الرموز السياسية والدينية في القرن الأول الهجري، وهو ما نجده اليوم في واقعنا فالتاريخ الذي يبدأ على شكل مأساة دامية كوقعة الجمل وصفين وكربلاء… إلخ ينتهي بمهزلة كحركة التطبيع التي يتهاوى إليها اليوم شذاذ الآفاق من رؤساء العرب.
وتلك حالة تتصل بشكل أَو بآخر بنظام القيم، وتوزيع نظام القيم في حالة تواشج دائم بالسلطة بأشكالها المتعددة الثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية، ويجمع المفكرون على أن سوء ممارسة السلطة يطور دائماً قيماً سلبية تجد من يسعى لانتهاكها.
ما يجب أن يتميز به الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام هو الوعي بضرورات الإصلاح، فالإصلاح نسق فكري ثقافي حضاري تقدم عليه الأمم لإنجازه بحطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل مع الواقع لا القفز على شروطه الموضوعية، وقادرة على فرض طابعها الخاص الذي تتسم به المرحلة أَو يتسم به المستوى الحضاري الحديث، وهذا الطابع الخاص بدأ يتشكل ويدل عليه الخطاب الثقافي في مطلق عمومه وهو ماضٍ في فرض نسقه الفكري والفني من خلال عدد من الأنشطة الثقافية، وهو اليوم أكثر تجليًّا في اليمن من خلال التنوع في النشاطات الاحتفائية بالمولد النبوي.
ما يحدث اليوم في عموم الجغرافيا اليمنية هو عملية ثقافية تحفيزية تهدف على إكساب المجتمع هُــوِيَّة إيمَـانية مضافة، وهي تعتمد اعتماداً متزايداً على مختلف الجماعات؛ بهَدفِ الوصول للوحدة المشتركة، أَو الإحساس بها، في ظل ما يتعرض له الإسلام من هجوم، ومن تشويه متعمد، ويحمل شلال الإيحاء المتدفق من بين حروفها مشروعاً نهضوياً كَبيراً يصنع من الفكرة الدينية مشروعاً سياسيًّا واعياً وقادراً على إحداث التحولات وتحريك عجلتها، وهذا ما تدل رموز وإشارات خطاب السيد العلم قائد الثورة في خطاب تدشين الاحتفالات بالمولد.
فينبغي أن يتغاير احتفالنا بالمولد هذا العام، فالتوافق الزمني له دلالته، والمولد له دلالته الثورية أَيْـضاً، فحين جاء الرسول الأكرم -عليه الصلاة والسلام- لم يأتِ إلا حاملاً مشروعَ ثورة ذات عُمق دلالي كبير في البناء الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، وفي الدلالات التحولية العميقة، فالإسلام لم يكن سوى ثورة عميقة أحدثت انحرافاً عميقاً في كُـلّ البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولذلك فالتزامن يجب أن يكون بداية طريق لا ترفاً اجتماعياً زائلاً بزوال المناسبة.