في الوعي الجمعي العربي فكرةُ الخوف من الآخر والريبة، هذا الخوفُ وتلك الريبةُ حاصرت الذاتَ في زوايا مغلقةٍ ومحكمة؛ لذلك كان التفاعُلُ محدوداً ومعدوماً في فتراتٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ، وظل العربُ على مسافة كافية من البُعد عن دوائر التأثير والصنع في تحديد مسارات النظام العالمي الذي يفرض عليهم اليوم هيمنته، ويوجه مسار الأحداث إلى الجهات التي يتغيَّا دونَ مراعاة للعرب ولا لقيمتهم ولا لمصالحهم، إلى درجة أن كيسنجر أطلق تصريحات تقول لا بُـدَّ من السيطرة على مصادر الطاقة لتسهل هيمنتنا على الحكومات، والتحكم بالغذاء لتسهل الهيمنة على الشعوب، وقبل ذلك لا بُـدَّ أن نقتل أكبر عدد من العرب، وهذا لو أمعنا النظر هو الذي يحدث اليوم.
وحتى نعيَ المستوى الحضاري الجديد الذي وصل إليه البشر لا بُـدَّ أن نسلم بالحقيقة الجوهرية الثابتة التي ترى أن الفكرة الدينية فكرة ثابتة لا يمكنها التغير في بعديها العقائدي والأخلاقي بقطعية النصوص، ولكن المشروع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قابل للتحول والتبدل ويمكن ابتكاره وإبداعه من تفاصيل الزمن الحضاري ولذلك فقضيتنا لا تنحصر في موضوع الدعوة وفرض ثقافتنا وعقائدنا على الآخر فقد حصرها النص الديني بالبلاغ والبلاغ قابل للتحقّق من خلال المشروع الاجتماعي والسياسي وشواهد التاريخ دالة على ذلك.
إذن تشذيب التراث من كُـلّ شوائبه التي فرضتها الضرورات التاريخية والسياسية هو البداية المثلى لصناعة مشروعنا السياسي الذي يتفاعل مع العالم من حولنا ليكون مؤثراً فيه لا متأثراً به، والآخر يخاف من المشروع السياسي المتجدد ولذلك سعى إلى اغتيال رموز النقد والتنوير واستمال العلماء إليه ومن رفض نالته يد الغدر ولو جال البصر في الزمن المتأخر منذ عقد الثمانينيات لرأينا هذه السياسة بشكلٍ جلي وواضح، لكنه لا يخاف الفكرة الدينية بل تعامل معها بقدر من التفكيك والتشويه وشواهد ذلك كثيرة بدءاً من أفغانستان ولا نقولُ انتهاءً بداعش فالقائمة ليست محدّدة بزمن.
لذلك نرى التأكيد على مبدأ التعايش، من خلال صيغة جامعة، فالتفرد أصبح مستحيلاً وهو محكوم بالنهايات التراجيدية وبدوائر الصراع، ولذلك نرى أن نقف عند القضايا الكبرى بقدر من المسؤولية وقد نختصرها العناوين العريضة التالية:
– التفرد مستحيلاً ومن حق الكل أن يعبر عن وجوده.
– الشراكة الوطنية ضرورة وطنية لا بُـدَّ من تعريفها وتجديد أهدافها.
– المصالحة الوطنية -ولو حصل فيها غمط- ضرورة مرحلية حتى نجتاز عتبة التآمر وترتيب البيت من داخله.
– مراجعة الذات والبناء المؤسّسي القادر على التفاعل مع المستويات الحضارية الجديدة، والقادر على صناعة مشروع سياسي مؤثر في النظام العالمي لا متأثر به.
– تنمية الذات والاشتغال على تفجير طاقاتها، وتنمية حركة النقد وصناعة الرموز الثقافية الواعية القادرة على صناعة الأبعاد الاستراتيجية.
– تنمية البعد الثقافي والاستفادة من توظيف كُـلّ الفنون لخدمة المشروع السياسي والاقتصادي كما دأبت بعض الدول كتركيا مثلاً.
تلك التوجّـهات يجب أن تكون نصب أعيننا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ومالت إلى زمن اللا سلم واللا حرب، ونحن نتوقع أن يكون هناك توجّـه في المباحثات القادمة لخفض نسبة التوتر في الجبهات العسكرية والاشتغال على التدافع بعد أن بلغ المستعمر غايته من السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم بخط الملاحة الدولي والسيطرة على منافذ الغذاء.
لذلك يصبح الاستغراق في الحرب دون طائل، فهو لن يجعلنا نصل إلى نتيجة لصالحنا ولكن بالحساب المنطقي لصالحه فهو يهدف إلى تبديد القوة البشرية المناهضة له -وفق تصريحات كيسنجر المشار إليها في السياق-، ولذلك يمكن البناء على حركة الصمود الأُسطورية وتوظيفها في السيطرة على مقاليد المستقبل والتحكم بمساراته وهي تحفظ لنا قوتنا البشرية من الفناء الذي يريده المستعمر.
ولا بد أن ندرك أن المستعمر وصل إلى غاياته وأهدافه فقد جعلنا شيعاً وأحزاباً وفرض سيطرته وهيمنته على كُـلّ مقدراتنا، ولعلنا نلاحظ اشتغاله في زمن الهدنة وفي الزمن الرخو الممتد بين أُكتوبر إلى اليوم –زمن اللا حرب واللا هدنة– فهو يريد إفراغ فكرة الصمود وفكرة الانتصار من مضامينها، وقد عمد إلى المؤشرات ذات الطبيعة الإيجابية ليفرغها من محتواها بدليل أن ما يسمى بمجلس القيادة التابع للمرتزِقة يعلن أنه سوف يصرف المرتبات للمحافظات الواقعة تحت سيطرة المجلس السياسي وحكومة الإنقاذ الوطني؛ مِن أجل أن يتم إفراغ فكرة المفاوضات من مضامينها وبحيث تتحول فكرة صرف المرتبات فضلاً من حكومة المرتزِقة لا شرطاً تفاوضياً كان المستعمر يرفضه، ولعل المتابع يلحظ أنهم يريدون إفراغ أي محتوى إيجابي لحكومة صنعاء حتى الشأن الثقافي ظل إعلامهم يشن حملة مسعورة على ديواني البردوني اللذين طبعتهما صنعاء حتى لا يحسب لصنعاء أية فضيلة وما زالت الحملة مُستمرّة والكثير من الكتابات والتعليقات تقول ذلك بكل صراحة.
نحن أمام مرحلة فارقة تتطلب يقظة متناهية فالحرب انتقلت إلى جبهات أُخرى ومن المعيب أن نهزم فيها فالمرحلة تعتمد على الوعي وعلى الصناعة وعلينا أن نصنع غدَنا بما يليق بنا.