يقال إن المعرفة هي القدرة والقوة التي نستطيع أن نقود بها المجتمع إلى الخير أو إلى الشر , ونقص المعرفة لا يعني الهزيمة النفسية والاخلاقية والثقافية بل يعني قصورنا في التفكير وعدم قدرتنا على استغلال المعرفة التي تحيط بنا من كل صوب واتجاه، بما يلبي حاجتنا في حياة كريمة ويوفر لنا الأمن والاستقرار , وبالأمن والاستقرار نستطيع أن نصوغ رسالتنا إلى العالم وهي رسالة قوامها العزة ,ومضمونها المحبة والسلام والخير العميم لكل بني البشر الذين تجمعنا بهم أخوة الدين , أو رابط الانسانية كما عبر عن ذلك كتاب الله في خطابه لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام حين قال: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وقال الإمام علي كرم الله وجهه (الناس صنفان :إما أخٌ لك في الدين ,أو مساو لك في الخلق).
لقد كان قدر المسيرة القرآنية، كمشروع حامل للخيرية والعدل والعزة, وللكرامة والسلام , ومشروع ناهض ,أن يحتك بالواقع, ويصطدم بالفراغ الذي تركه غياب السلطة بعد (ثورة 21سبتمبر2014م) فكبُر الفراغ على شاغليه , وترك ذلك الفراغ مساحات اشتهت الامتلاء, فكان ذلك الامتلاء من الغث ومن السمين وتراكمت الأخطاء إلى درجة التيه وضبابية الرؤية , وتقديم النموذج غير الصحيح في غالب الأحيان, وشيئاً فشيئاً بدأت حركة المجتمع تتحدث عن تناقضات وتشوهات حدثت وتحدث بفعل غياب التفكير المنظم الخاضع لعمليات الانضباط والتوجيه , والسلطة في كل الأحوال والحقب هي عامل ضعف وهزيمة لأي مشروع ثقافي وفي السياق هي محك اختبار لذلك المشروع إذا اكتملت مقوماته واتضحت رؤيته وقاده المؤمنون به , لا الذين تفرضهم الضرورة الزمنية عليه .
في تجربة (حزب الله) في لبنان مصادر قوة جعلته عصياً على الذين يستهدفونه من القوى العالمية أو العربية، تلك المصادر يمكن اختزالها في مفردة (المعرفة) فهو يدير المعرفة بما يلبي حياة كريمة , وقيمة مثلى , ولم ينفرد بالسلطة يوماً ولا يراها إلا عبئاً يقود إلى فقدان القدرة والفاعلية , ونحن لا نقول هنا بالعزوف عن السلطة بل نقول بالحفاظ على القوة من خلال السلوك القويم وتحقيق مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقي والواضح, والتفكير الجاد في الوصول إلى صيغة توافقية تضمن أو تكفل ممارسة الكل لنشاطه دون قيد أو انتقاص وفق ضوابط واضحة متفق عليها .
إن فقدان أدوات الحرب من معدات وآليات لا يعني تجرّد الجماعات والكيانات – كما يدل التاريخ – من مقومات وجودها , ولكن فقدان المعرفة ,بما تمثله من قوة, هي التجرد الحقيقي من مصادر القوة , ولذلك نرى أن بقاء المشروع الثقافي رهن بحيوية المعرفة, واستغلال المعرفة التي تحيط بنا ,هي الضمان الحقيقي من الفشل الذي يسعى العالم كله للوصول بنا إليه.
فالحرب ليست غاية في ذاتها أو هدفاً , ولكننا قد نُجبر عليها , وخيار السلام هو المعنى الحقيقي، ولو جاء بشروط مجحفة- كما في صلح الحديبية.
قدرتنا على الحفاظ على بوصلة التوازن النفسي والسياسي والثقافي هو الخيار الأمثل , أما السلطة فهي قضية نسبية , وليست معياراً يجب الحفاظ علية , ولذلك فتحليل الظواهر , وتنظيم الاشياء والكيانات وتجنيب الناس تبعات الأحداث في المستقبل والحفاظ على مفردات القوة, والتأثير في المسارات المختلفة , وتفعيل القدرات الذهنية في التفكير والانضباط والتوجيه , هي المسارات الحقيقية التي تضمن السيطرة على مقاليد المستقبل والتأثير في تفاعلاتها .
وثمة أمر يجب الوقوف عليه بقدر من الحيطة والحذر , وهو الزهو والغرور، وهما من الصفات الأخلاقية المذمومة وقد يشكلان مقدمة لعوامل التحلل وفقدان التأثير ويمهدان للوصول إلى حالة العمه والطغيان وفقدان روح التوازن في التكوين العام , وما هو مقروء في الواقع يبعث إشاراته ورموزه , وعلينا أن ندرك تلك الإشارات والرموز والقيام بعمليات تصحيح دائمة ومستمرة , فالحوار وتنشيط الذهن تصحيح مستمر لكل التصورات الخاطئة وعلينا الاهتمام بمثل ذلك وعدم التقليل من قيمته وأهميته ,فالتسلح بالأسباب من قواعد بلوغ الغايات.
ولعل في تعزيز التحالفات الوطنية , وتمتين أواصرها بالاتفاقات والتفاهمات وإبداء صدق النوايا ما يقلل من أثر الاستراتيجيات التي تسعى إلى الوصول بحركة أنصار الله إلى حالة فقدان القدرة والتأثير في حركة الأحداث وتفاعلاتها وفق كل المؤشرات التي يبعثها الواقع .
كما أن الاشتغال على مأسسة الحركة لاستيعاب الطاقات وتأطيرها واستثمار قدراتها الذهنية والإبداعية والابتكارية من الضرورات التي يجب التفكير فيها ملياً, فالتنظيم والتأطير قد يساهم في الحد من الظواهر الانفعالية التي تظهر في شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها وتعمل على تفكيك منظومة القانون الطبيعي وتعزز الانقسامات في المجتمع .
ولعل من محاسن الحروب والصراعات أنها تحدث فرزاً وتمايزاً , فيمتاز أهل الخير والبناء , ويمتاز أهل الشر والبغي , وتكون الصورة أكثر وضوحاً للناس , وهذا هو عين ما قالت به الحرب في اليمن على مدى السنوات التي سلفت ,فالذين يدعون الشرعية اتضح أنهم لا يملكون قرارا وأنهم ليسوا أحراراً والذين وقفوا إلى صف الوطن دفاعاً وذوداً عن حياضه رفعوا شعاراً مضمونه « يد تحمي ..ويد تبني « وقد دلّ الواقع أنهم عند مستوى الشعار، من حيث الدفاع وما يزال همٍّ البناء يستنفر فينا القدرات الذهنية والفكرية والعملية .
وبالوقوف عند الإشكالية التاريخية، نرى أنه من الضرورة بمكان قراءة التاريخ بمنهجية جدلية وبرؤية تفكيكية قادرة على بعث الروح في الذات المنهزمة فينا , كي تستعيد وعيها بمقوماتها التاريخية والحضارية , وبحيث تتمكن من تسجيل حضورها في العصر الحديث , بوعي أكثر تطلعاً وأكثر تقدماً وأكثر انتاجاً , بعيداً عن روح الغنيمة والصحراء .
فالبناء الجديد قد يتطلب هدماً في أحايين كثيرة حتى يكون البناء الجديد أكثر قوة وأكثر متانة في مقاومة عوامل الطبيعة وتطورات المراحل التاريخية .