تأسَّسَ “الكيانُ الصهيوني” على فكرةٍ دمويّةٍ إلغائية تقول: “أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض” وهي مستمدّةٌ من روح الحضارة الغربية المؤسَّسة على إبادة الشعوب ونهب أرضها وثرواتها مثلما فعل الغزاة الإنجلوساكسون في أمريكا مع شعوبها الأصلية، وأسّسوا لهذا النموذج الإرهابي العنصري.
ومن هنا نستطيع فهم طبيعة هذا الكيان، الذي لا يمكنه الخروج أَو الحد من هذه الطبيعة؛ ولأنّ أصحاب المشروع ورعاته أنفسَهم من نفس سنخيّته الهمجيّة.
وقادة هذا الكيان المجرم لا يخفون هذه الحقيقة، بل هم يتفاخرون؛ كونهم قَتَلَةً ومجرمين، وهم بلا استثناء يعلنون أنّ هذا الكيان ما كان لينشأ لولا المجازر التي ارتكبتها عصاباتهم في فلسطين مثل مجزرة دير ياسين وغيرها العشرات، ليس هذا فحسب، بل إنّ بقاء هذا المشروع الاستيطاني اعتمد على المجازر داخل وخارج فلسطين كما في بحر البقر في مصر، وصبرا وشاتيلا وقانا في لبنان، والقتل الجماعي للجنود المصريين في حرب،1967 وفي كُـلّ الحروب التي شنّتها “إسرائيل”، كانت تعتمد هذا النهج الإجرامي ظنّاّ بأنّه يمكن أن يردع الطرف الآخر ويكسر إرادته، ويدفعه عن المطالبة بحقّه المشروع، ولكنّ الذي حدث هو العكس من ذلك، وظلّت الضحية قائمة في وجه الجلّاد تقاومه بدمها ولحمها وعظمها، وتسري روحها المقاومة تتناقلها الأجيال بلا فتور ولا ملل ولا تردّد مسقطةً كُـلّ الرهانات على هزيمة الشعب الفلسطيني، أَو دفعه عن السّعي لاسترداد كامل حقوقه في كامل ترابه الوطني.
عقود من الاحتلال وما يعنيه من قهر وظلم وعسْف وقتْل وهدم وسجن ونفي.
عقود من الاحتلال والأرض كُـلّ يوم تنقص من تحت أقدام الفلسطينيين لصالح المغتصبات والمغتصبين.
عقود من الاحتلال والقدس يُراد لها أن تكون “يهودية” لا أثر فيها للعروبة ولا للإسلام يذكّر بأهلها الشرعيين.
وعقود من الحصار على الشعب كُـلّ الشعب، ولا سيّما غزّة التي أُغلقت على أهلها منذ ستَّ عشرةَ سنةً؛ لتصير أكبر سجن في العالم يضم بين أسواره 2.3 مليون نفْس.
وعقود من الوهم والزيف الذي أسْموه (اتّفاقَ سلام) وهو في الحقيقة خديعة كُبرى أرادوا من ورائها وأد ثورة الشعب، وتنشئة جيل فلسطيني (جديد) يرى في الاحتلال قدراً حتماً عليه أن يتعايش تحت سطوته وهيمنته ووصايته مقابل طعامه وشرابه وما سمّوه رفاهاً اقتصاديًّا، ومن ثم يكون هذا الفلسطيني وسلطته الوهم جسراً يمر عليه الصهاينة إلى عواصم المنطقة بعنوان السلام والأخوّة الإنسانية، والتطبيع، ولم يكتفوا بهذا، بل وصل الحال من الردّة والانقلاب على الأعقاب إلى حَــدّ الدّمج بين ما أسموه (الديانات التوحيدية) في اختراع مسخ أسموه (اتّفاقَ إبراهام والولايات الإبراهيمية) وقد جعلوا لليهود فيه موقع القيادة والريادة إمعاناً في التسليم بدور الكيان الصهيوني المهيمن على المنطقة، وتمّ نفض يد هؤلاء من فلسطين -شعباً وأرضاً وقضيةً-، وهم يزعمون أنّهم يعملون لصالحها.
وهكذا.. ومن حَيثُ لا يريدون ولا يدرون، أوجدوا بالضرورة ذلك الفلسطيني الجديد، ولكنّه ليس ذاك الذي خطّط له (دايتون)، وإنّما ذلك الذي صهرته نار العدوان، وصقلته تجارب الحياة، وانفتحت بصيرته على كُـلّ هذا الإجرام والتآمر والخيانة، فكان ذلك المقاوم الذي عرّف عن نفسه صبيحةَ السابع من تشرين الأول باسمه الحركي “طُوفان الأقصى”.
– دوماً كان الأقصى كلمة السّر التي تنفتح لها أبواب الرّوح لتعرج في عالم الملكوت، وتسكب عطرها في دروب الآلام دماً فوّاراً، وبذاراً من كرامةٍ وعزّةٍ، تُعطي التراب المقدّس نكهة الفرح الآتي، وخصوبة اليقين، وثمار الانتصار.
– لم تكن شمس صباح السابع من تشرين الأول كغيرها من شموس الصباحات الفلسطينية، ولم تكن زقزقة عصافير السّياج المغروز في صدر غزّة ليفصلها عن جسدها الممتد إلى الناقورة تشبه زقزقة سائر الأيّام، ولم تكن دقّات قلوب المقاومين وهي تعبر التاريخ والجغرافيا من القوة إلى الفعل معلنةً أنّ قلوب الفقراء تبقى هي الأنقى والأتقى والأجدر بالحياة.
– فتح الفتوح كانت “طُوفان الأقصى”؛ لأَنَّها أسست على الأرض الفكرة القائلة بزوال “إسرائيل” وأنزلتها من مقام الأماني إلى أرض الحقيقة، حين اقتحمت على العدوّ حصونه وتركته قتيلاً أَو أسيراً أَو هارباً، في نموذج عبقري لمشهد تحرير فلسطين كُـلّ فلسطين..
– آية الله الكُبرى في هذا القرن، أن يستطيع المحاصرون الذين كان يُنظر إليهم على أنّهم الحلقة الأضعف في “محور المقاومة” فإذا بهذه الحلقة تكسر سلاسل العدوّ، وتهوي بكبريائه الوهم إلى الحضيض، وتفقده آخر رمق من مناعته، وتضعه وجهاً لوجه أمام شروط هزيمته الكبرى، واندحاره عن هذه الأرض، حَيثُ لم يعد لديه أدنى الدافعية للبقاء..
– “طُوفان الأقصى” أماط اللثام عن الوجوه القبيحة التي تخفّت وراء أقنعة الحرص على فلسطين وقضيتها، في الوقت الذي كانت تتآمر فيه على الدم الفلسطيني وتستعجل السكين الصهيوأمريكي لقطع أوردة الحياة عن أطفال غزّة فلا يكبرون لمواصلة الجهاد، وعن نساء غزّة الّلواتي يحملن في أرحامهن وعلى صدورهنّ مشاريع الشهادة والتحرير..
-خانوا وخذلوا كعادتهم، لتبقى غزّة دون ظهر تستند إليه، وهم لا يدرون أنّهم بهذا دفعوا غزّة بكلّيتها إلى يد الله الرحمن الحانية تأوي إليها فتمنحها السكينة والقوة، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه، وكلّ الذين توكّلوا على الله عبر التاريخ كفاهم الله وآواهم وأيّدهم ونصرهم، وقد هاجرت غزّة إلى الله متدرّعة بثوب التقوى ومصبوغة بصبغة الله، ومضمَّخة بدماء المجاهدين، ووحدها غزّة يليق بها هذا المقام، ومعها إخوانها في محور المقاومة الذين قاموا ويقومون بالواجب، ومن ورائهم كُـلّ أحرار وشرفاء العالم.
– “طُوفان الأقصى” سفر فلسطين المنقوش على جبين الرجال، عمود النور الذي أشعله الدّم الطهور بين يدي ركب العابرين على طريق القدس ركضاً إلى الله، زادهم الحق، ومركبهم اليقين بوعد الله، وسلاحهم الشوق إلى ترابهم المقدّس، وحاديهم قوافل الشهداء الذين مهّدوا درب الجهاد وما بدّلوا تبديلًا..
– هُزمت “إسرائيل” حقّاً هُزمت.. وتقاطر أصحاب المشروع الأسود لإنقاذها من مصيرها المحتوم، ولن يفلحوا، وتأكّـد لمن يريد أن يرى أنّ أمريكا هي “إسرائيل الكبرى” وأنّ إسرائيل هي “أمريكا الصغرى”، وأنّ معركة الأُمَّــة هي أوسع من دائرة غزة وحتى من دائرة فلسطين، إنّها معركة مشروع الأُمَّــة، مشروع وحدتها واستقلالها، ونهضتها مع مشروع الغرب الإمبريالي الذي تمثّل “إسرائيل” طليعته المتقدّمة، هذه المعركة التاريخية التي تلتقي في صفحاتها كُـلّ عناوين الصراع التاريخي بين الحق والباطل، والتي كانت القدس كلمة سرّها في طول التاريخ، وُصُـولاً إلى معركة “طُوفان الأقصى” التي ستؤرّخ لعصر جديد لفلسطين والأمّة.
إنّ المتغيّر الأهم الذي أسفر عنه صباح اليوم السابع من تشرين الأول هو أنّ “إسرائيل قد هُزمت” وسقطت إلى الأبد (الفكرة) التي تأسّس عليها مشروعها الباطل وهو أنّ فلسطين يمكن أن تكون ملاذاً آمناً لليهود، وأنّ هذا الجيتو الكبير الذي أسموه (إسرائيل) يصلح لئن يكون وطناً قوميًّا لهذه الجماعات التي تعيش انفصام الهُــوِيَّة وانعدام الذاكرة الجّمعية، وأنّ دورها الوظيفي في سياق المشروع الصهيوني الكبير قد تم تحييده وإخراجه من الخدمة، وأنّ جيشها الذي قُتل وأُسر وفرّ أمام المقاومين لن تعود إليه هيبته، ولا قوّة ردعه، وأنّ مستوطنيه الذين أخلوا مستوطنات غلاف غزّة قدّموا نموذجاً لمستقبل كُـلّ مستوطني الجيتو الكبير (إسرائيل) يقضي بإخلائه، حَيثُ لا رابطة حقيقية تجمع بين هذا المغتصب وهذه الأرض، وعليه فَــإنَّ كُـلّ الدوافع التي اختلقت لمجيء هذا المستوطن وبقائه في فلسطين تلاشت مع “طُوفان الأقصى” ولم يبق منها ما يمكّن هذا المستوطن من البقاء فضلاً عن القتال، ومن هنا، وعلى خلفية هذه القراءة جاءت أمريكا بكل خيلائها منذ اللحظة الأولى للطوفان في محاولة منها لانتشال إسرائيل وإفاقتها من الغيبوبة التي أحدثها هذا الطوفان، وتقاطر أصحاب المشروع الصهيوني ومؤسّسوه لإنقاذ مشروعهم المتهاوي.
ومن هنا أَيْـضاً ندرك حجم الجنون الذي يمارسه العدوان على أطفال غزّة وعلى نساء غزّة قتلاً وتدميراً، بعد أن أطلق الغرب الكافر يد “الكيان” لتدمير كُـلّ شيء في غزّة، ولتكشف عن أوراق المشروع القديم الجديد الذي يستهدف إنهاء القضية الفلسطينية في ظل تواطؤ مفضوح من أنظمة الوجه الآخر لإسرائيل.. ولكن.. هيهاتَ لهم ذلك، وجند الله لهم بالمرصاد تحت كُـلّ شجر وحجر.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} يوسف: 21.
د. محمد البحيصي: كاتب فلسطيني
*نقلا عن : موقع أنصار الله