العنوان أعلاه ومتفرعاته كـ«الشرق الأوسط الجديد»، وغيرها من التسميات المتوارية، صيغت بدقة ضمن مخطط ما بعد استعماري، تبناه المكتب الوطني للاستخبارات الأمريكية في أوائل نشأته بداية القرن الماضي، مع بواكير بزوغ نجم حركة التحرر العربي مستندة إلى حركة عالمية للتحرر آنذاك، وبداية تبلور مشروع النهضة العربية الحديثة.
كانت الفكرة مصاحبة لما عرف حينها برحيل الاستعمار العسكري «الكولونيالي» التقليدي، الذي قادته دول أوروبية مختلفة، متخاصمة في ما بينها أحيانا، متفقة ومتآمرة على الآخرين أحيانا كثيرة، كبريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا.
بدأت أغلب هذه الدول في التفكير بالرحيل عن معظم المنطقة العربية، ومناطق في آسيا وأفريقيا، والتي كانت واقعة تحت نير وطأة جبروتها، إلى جانب طغيان «تركيا الخلافة» المتدثرة بالإسلام، وذلك عقب ظهور محاولات كثيرة متصاعدة للمواجهات العسكرية مع تلك الدول من قبل شعوب المنطقة، غير أن دهاء جهاز المخابرات الأمريكية الفتي وحدة نظرته ومعلوماته الدقيقة آنذاك حالت دون ذلك، حيث اقترح على أجهزة مخابرات تلك البلدان مقترحا استراتيجيا تمثل في البحث عن البديل الاستعماري، إن كانت مصرة على المغادرة. وطرح سلسلة من الحيثيات مؤداها: أن البلدان العربية بالذات جلها متخلفة ومقموعة بفعل حكامها عبر قرون، وفي ذات الوقت تحتكم على ثروات طبيعية مهولة من النفط والغاز والمعادن الأخرى، إضافة إلى الموارد الزراعية النوعية، وإن كانت محدودة، حسب مسوحات ودراسات استعمارية سابقة.
بناء على تحليلات جهاز المخابرات الأمريكية فإن البلدان العربية ورغم ما تحتكم عليه من ثروات ضخمة إلا أنها وحكامها غير ذوي أهلية لإدارة تلك الثروات والاستفادة منها، ومن ثم فإنه من الضرورة بمكان العمل على بناء استراتيجيات سرية متقدمة للاستفادة من تلك الثروات بطريقة تمكن الدول الاستعمارية ومن خلفها النظام الدولي الصاعد من السيطرة المطلقة على مقدرات المنطقة بصورة محتكِرة. وعليه فقد لجأت تلك القوى وبمساعدة جهاز المخابرات الأمريكية إلى إعداد مشروع بديل عرف بمشروع «السيطرة البديلة» سيطرة قوية وغير مباشرة.
تضمن ذلك المشروع منظومة خطط وإجراءات استرتيجية علمية اقتصادية بالذات، معدة وقابلة للتنفيذ، كل تلك الخطط كانت تحت صيغة ومفهوم «الشرق الأوسط الكبير والجديد»، وغيره، تمييزا لها عن الشرقين الأقصى والأدنى، وفي هذا السياق يشير نعوم تشومسكي إلى أن هناك 74 سيناريو صيغت في هذا الإطار، وكل سيناريو عبارة عن خطة بديلة مدروسة، بمعايير ومواصفات وشروط وبرامج تنفيذ مرحلية محكمة الإعداد والإجراءات.
بصورة موازية كان لزاما على معدي تلك السيناريوهات التركيز على بلدان بعينها من بلدان المنطقة كي تكون جزءًا من أدوات إنفاذ تلك السيناريوهات، وإن بطرقٍ غير مباشرة، الغرض من ذلك هو ضمان أعلى درجات النجاح في تحقيق المضامين والأهداف وراء مشروع كهذا.
«إسرائيـــــل»، تركيـــا، إيـــــران، السعودية، باكستان، إثيوبيا.. هذه هي دول «الشرق الأوسط الأوروأمريكي الكبير»، تم اختيارها بمعايير على أعلى درجات الدقة كذلك، كل دولة من تلك الدول تؤدي دورا أو أدوارا في ذات المشروع، بحسب ما هو مرسوم لها، باستثناء «إسرائيل» التي صيغ المشروع برمته من أجلها، كي تكون عمقا عسكريا متقدما للغرب الإمبريالي في المنطقة لتأمين أعلى درجات مصالحه الاقتصادية، وبالذات إمداده بالطاقة، وهذا يستلزم اتفاقات وإجراءات لتوزيع العوائد بناء على ثقل كل دولة وأدوارها، والتي حازت «إسرائيل» نصيب الأسد منه، كمساعدات عائدة لها من أمريكا، مركز الصهينة والاستحمار العالمي.
في كتابه الموسوم بذات العبارة «الشرق الأوسط الجديد» يسرد الرئيس الصهيوني السابق شمعون بيريز سلسلة من الحقائق الممزوجة بالمغالطات حول ذات السيناريوهات والخطط الهادفة إلى تمكينهم من فلسطين والهلال الخصيب، ومن ثم تركيع المنطقة العربية بأكملها لإرادة الكيان الوكيل، وعلى مراحل مبرمجة، فاحصة لكل الجزئيات المتعلقة بالمخطط العام للمشروع.
«إسرائيل» امتداد غير طبيعي للنظام الاستعماري الجديد، نظرا لسيطرة يهود أوروبا على كل قدرات أمريكا السياسية والاقتصادية والإعلامية بالذات، والتي مكنتهم من توجيه الرأي العام العالمي -بطرق ملتوية ومتنوعة- إلى قضايا وأفكار وطروحات أسطورية حسب روجيه جارودي في كتابه «الأساطير المؤسسة للصهيونية».
لم يكن يهود الشتات في أوروبا وغيرها يحلمون بوطن كفلسطين بما هم عليه اليوم من سيطرة، ومركزية، تخطط لجعلهم عمق «الشرق الأوسط الكبير» بكل مقدراته النهضوية المستهدفة، حتى قيام الحرب العالمية الأولى، التي أدى فيها اليهود دور الطابور الخامس بين الفريقين المتحاربين عالميا، المحور والحلفاء.
في هذه الحرب وقبلها من الحروب الجزئية في أوروبا، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والثامن عشر الميلاديين، والتي كان اليهود من خلالها يعملون على استثمار كافة جزئياتها لصالحهم، برزت لدى القوى الاستعمارية فكرة استثمار اليهود الصهاينة بالاتجاه المقابل، لما يتمتعون به ويحوزونه من قدرات وأدوات، كالمال والمعلومات التي كانوا حريصين على اكتنازها وتوفيرها لاستخدامها في ما بعد كوسائل سيطرة ورشى تقدم في الأوقات المناسبة لخدمة أمراء الحروب الأوروبية بصورة ناجعة، تجعل اليهود في ذات الوقت أصحاب سيطرة وتوجيه لأولئك الأمراء دون وعي أو بتواع مقصود، حيث يحرص كل طرف على تحقيق مآربه غاضا الطرف عن حقيقة الأدوات ومضامينها التي توصلهم إلى أهدافهم.
في هذا السياق يمكن الإشارة إلى دور واحد من الزعماء الصهاينة خلال الحرب العالمية الأولى، وهو حاييم وايزمان، أول رئيس للكيان الصهيوني بعد التأسيس من 1949 حتى 1952 تقريبا، والذي كان أستاذا للكيمياء في جامعة مانشستر ورئيسا لها، مكتشف مادة «الأسيتون» من خلال تطوير طريقة مبتكرة في التخمر الكيميائي العضوي.
تستخدم الأسيتون ضمن استخداماتها المتنوعة في إزالة طلاء الأظافر، وهي الجذر الأساس في إنتاج مادة «الكوردايت» شديدة الإنفجار قدمها وايزمان هدية للإنجليز أثناء الحرب، حيث استخدمت عسكريا نظرا لما تتمتع به من قدرة انفجار فائقة وكذا المساعدة في إشعال ومضاعفة تفجير القنابل الاستراتيجية، ما قربه وعصابته أكثر من بريطانيا، حتى صاروا محل ثقتها، التي بلغت مستوى منحهم وعدا بفلسطين عرف «بوعد بلفور» الذي لعب فيه وايزمان -جنبا إلى جنب مع ليونيل روتشلد وآرثر كاستلر، وآخرين- دورا مفصليا في إتمامه وتنفيذه على الواقع.
كان كاستلر قريبا جدا من وايزمان، بل تقول بعض الوثائق إنه كان سكرتيره الصحفي، ومودع أسراره، غير أنه كما يقول هو: ضاق به حجم الافتراءات التي أشاعها وروج لها يهود أوروبا، ومن خلفهم المجموعة الأوروبية الاستعمارية، حول وطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وحقهم التاريخي في ذلك. ظل ينافح فترة من الزمن، حتى اهتدى إلى كتابة كتاب يعد من المراجع المهمة في تفنيد الرواية اليهودية تلك، سماه: القبيلة الثالثة عشرة. يؤكد فيه أن يهود الصهينة الأوروبية الذين يسعون للفوز بفلسطين كوطن تاريخي لهم ليسوا سوى يهود مملكة الخزر التي نشأت في فترة تاريخية حرجة على نهر الفولجا، وهؤلاء لا يمتون بأي صلة ليهود الشتات الأسطوري المذكور في المدونات الدينية ليهود المنطقة العربية.
العديد من التقارير والدراسات والأبحاث العلمية، المخابراتية بالذات، حول صراع القرن العشرين وتبعاته المتوالية، على اختلاف مشاربها وصياغاتها، تؤكد في مضامينها على تلك السيناريوهات، الخطط البديلة، الهادفة إلى السيطرة المطلقة على المنطقة العربية، كمصدر من مصادر الطاقة والموارد الطبيعية، وكان في طليعة الاستراتيجيات المطروحة زراعة كيان عازل لجناحي الوطن العربي الكبير، يفصل مشرقه عن مغربه، وُصِف في بعض الوثائق البريطانية بـ«Puffer State» الدولة أو بالأحرى «الدويلة العازلة»، والتي أصبحت «إسرائيل». في مؤتمر سري عقد في لندن، وظلت أعماله لمدة عامين تقريبا، (1905-1907) عرف بـ«مؤتمر كامبل» أسفر عن وثيقة عرفت أيضا بـ«وثيقة كامبل السرية» نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا آنذاك؛ هنري كامبل بانرمان؛ زعيم حزب الأحرار البريطاني، علما أن فكرة المؤتمر تلك قدمت له من حزب المحافظين، عقب فوزه برئاسة الحكومة خلفا للمحافظ آرثر بلفور، الذي خرج منها على إثر فضائح فساد أدت إلى هزيمة حزبه في الانتخابات التي أجريت حينها في العام 1905.
تلك الوثيقة الاستعمارية أقرت بضرورة غرس الكيان الصهيوني في المنطقة بغية استمرار سيطرتها، وتفويضه بأداء دور الشرطي الحارس لتلك المصالح، وكذا خطها المتقدم عسكريا، رغم ما زرعته من قواعد برية، ونشرته من حاملات طائرات بحرية في أراضي وبحار المنطقة في ما بعد، بالاتفاق مع أغلب دولها.
هناك وثيقة تشير إلى أنه وفي أوائل ستينيات القرن الفائت، أثناء رئاسة الرئيس الأمريكي جون كيندي المغدور، تقدم الصقور في البيت الأبيض حينها بمشروع يهدف إلى إجراءات تؤدي لمزيد من السيطرة وتمكين «إسرائيل» من خلال عمل إرهابي مخابراتي للصقور الأمريكيين يستهدف تدمير قاعدة جوية في فلوريدا، بغية إعلان الحرب على الإرهاب المفتعل والمصنوع من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية، ضمن عدد من خططها الرامية إلى إطباق يدها على المنطقة. برّر متبنو الفكرة بأن الأهداف التي ستحقق من وراء هذه العملية كبيرة واستراتيجية، تتمثل في:
أولاً: تعزيز أمن إسرائيل.
ثانياً: نقل خطوط واستراتيجيات الحرب الأمريكية إلى مناطق قريبة متاخمة لروسيا والصين تحسبا لأي صعود مشترك لهاتين القوتين معا.
ثالثاً: السيطرة على ما تبقى من مصادر الطاقة في المنطقة فعليا، وخارج حدودها في إيران وأفغانستان وغيرهما.
حشد الصقور كل المبررات المتاحة لديهم لإقناع كيندي بذلك، وعلى رأسها حجم العائدات الضخمة جراء العملية والتي تصل إلى عشرات التريليونات من الدولارات من الثروات المتوقع السيطرة عليها في الجغرافيا المستهدفة، غير أن كيندي استهجن الفكرة ورفضها، ما أفضى إلى اغتياله ضمن عديد أسباب أخرى، وضعته موضع المناهض لطموحات الشعب الأمريكي المشروعة لدى الصقور.
في سياقين سابقين وموازيين لكل هذه الخطط والسيناريوهات جرت خطة «سايكس بيكو» و«وعد بلفور» استراتيجيا وتكتيكيا، لتقسيم المنطقة تحت ذرائع واهية، وتمكين الصهاينة منها، حتى تظل رهن الإرادة الغرب أوروبية المتحكمة. بدأت السيناريوهات بمشروع البحث عن وطن قومي لليهود الصهاينة، وهي تحاول أن تتنتهي الآن بمشروع إجراءات عملية لتصفية القضية الفلسطينية، إما سلما من خلال «أجندات» التطبيع، أو حربا حتى الإبادة عبر آلة الفناء الصهيوأمريكية التي شفّرت الضمير الجمعي للبشرية، وغلّت أية محاولة للوقوف في وجه الاستكبار الجائر والوحشي للغرب المتصهين حد إزهاق الضمير. خرائط تبث وخطط تذاع وجرائم ترتكب على مرأى ومسمع دول العالم أجمع، ولا حراك حقيقيا وفعالا، سوى التنديد بلغة ممجوجة هلامية، لا تكاد تبين عن أي معنى، يمكن أن يفهم أو يُتكأ عليه في مواجهة ذلك الصلف الوحشي المقيت.
رئيس الكيان الغاصب طرح خريطة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يزعم أنها «خريطة وطنه» القادم، شاطبا أي أثر لإشارة إلى بعض فلسطين، واضعا خطا باللون الأحمر الكبير لما قال إنه خط التجارة الدولية الجديد، فائق السرعة والخدمات، وكبير العوائد للدول المنخرطة فيه، والتي من بينها السعودية والإمارات ودول عربية أخرى في المنطقة، والتي أضحت بفعل المس الصهيوأمريكي تدافع عن الوهم والأكاذيب الصهيونية، بل تدين الفلسطينيين في أي محاولة للدفاع عن أرضهم وعرضهم وكرامتهم التي شارك هؤلاء الأشقياء من العرب في هدرها.
ذاك الخط وتلك الخريطة والخطط المحتجبة والسافرة خلفهما، موجهة في جزء مهم منها وخطير ضد تحالف الـ«بريكس» وزعيمتيه الصين وروسيا، ومع كل ذلك فإن موقفهما لا يرقى إلى مستوى التحدي الفعلي لهما في هذه المواجهات التي، وبمنطق العقل والتاريخ وحقائق الصراع، تستهدف وجودهما السياسي والاقتصادي والأمني، بإجراءات مباشرة أو دونها.
وزير المالية الصهيوني سلك ذات المسلك الذي انتهجه رئيس كيانه الغاصب، مع اختلاف المكان والذي كان في باريس، عاصمة الحقوق والحريات المدنية، كما هو في ميثاق ثورتها.
أكابد المرارات وأنا أكتب هذه المادة، وأقلّب عددا من الوثائق والكتابات والتقارير محل الموضوع، والتي تذبح بمُدى حقائقها اليسير من الضمير. العمليات الإجرامية الأخيرة التي ينفذها جيش الاحتلال الصهيوني في غزة تنطوي على أخبث وأقذر السيناريوهات، وهو الإصرار غير المسبوق على تصفية القضية الفلسطينية، ضمن مخطط إقليمي كبير يقف الغرب كله خلفه، المستهدف الأكبر فيه مصر وجيشها الأكثر جاهزية عربيا لتحمل مسؤولية الدفاع عن المشروع القومي للأمة العربية. ذلك الإصرار والصلف الصهيوني يعتمد اعتمادا جوهريا على أساطير تلمودية، كما أشار إلى ذلك ضمنا «نتن ياهو» في إحدى مخاطباته لجمهور المحتلين من اليهود قائلا: «سنحقق نبوءة إشعيا، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببا في تكريم شعبكم، سنقاتل معا، وسنحقق النصر...»، وهذا يشير ويؤكد حجم تمسك هؤلاء بالأساطير والخرافات المضحكة، وهذا جزء من خطاب موجه لنوع معين من الرأي العام اليهودي «الأصولي» وليس لكل اليهود الصهاينة، حيث يوجد رأي عام آخر من المحتلين اليهود (براجماتيين وعلمانيين ليبراليين) لا يؤمنون ولا يعتمدون على هذا النوع من الأساطير الهشة.
سفر إشعيا كما يعلم بعض الدارسين للميثولوجيا وتاريخ الأديان يعد اليهود بمصر، وبدخولها كما دخل سليمان سبأ اليمن، لكن بطريقة مختلفة إلى حد ما، حيث يدخل اليهود مصر برفقة الرب ممتطيا سحابة، يصب العار والسخط على ملكها، ويبث الشقاق في أوساط أبنائها، حتى يقتتلوا ويصبحوا هدفا سهلا ويسيرا جدا لأعدائهم، ثم تذهب جزءٌ من أرضهم للكنعانيين «الفلسطينيين» حيث تغدو خمس مدن مصرية تنطق بالكنعانية. تخرصات تلمودية واضحة وجلية تحت شمس القرن الحادي والعشرين وعلى مرأى ومسمع الذكاء الاصطناعي، والنانوتكنولوجــــــي، والهندســـــة العكسية، وعلوم المستقبل الفائقة القدرة المتنافية مع المستحيل، إنما العقيدة الليبرالية تفعل فعلها.
* نقلا عن : لا ميديا