لبنى سليمان*
لم يكن إعلان «نقابة الصحافيين المصريين» عن ترشيح وائل الدحدوح لجائزة «حرية الصحافة» لعام 2023، إلا تتويجاً لجماهيرية طاغية حظي بها مدير مكتب قناة «الجزيرة» في غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. شعبية اكتسبها «أبو حمزة» بسبب الأحداث التي عاشها شخصياً والقطاع عموماً، ما جعله في مكانة يتساوى فيها مع الشخصية الفلسطينية الأكثر شعبية في مصر: المتحدث الرسمي باسم كتائب القسّام «أبو عبيدة». أحب الناس «أبو عبيدة» بسبب طريقته في مخاطبة العدو، والغموض الذي يحيط بشخصه، وبات غيابه مثار قلق وحضوره مناسبة للابتهاج. لكن الأمر مختلف مع الدحدوح الذي يعرفه الناس منذ سنوات طويلة. غير أنّ انقطاع المصريين عن متابعة «الجزيرة» في أعوام الخلاف بين القاهرة والدوحة، ربّما أبعد المراسلين المعروفين قليلاً عن الذاكرة. غير أنّ العدوان غير المسبوق في وحشيته، أعاد إلى الدحدوح ورفاقه الجاذبية التي حظيوا بها سابقاً وربّما أكثر.
عاد وائل الدحدوح جريحاً لإكمال مهمّته أمام الكاميرا وكأنّ شيئاً لم يكن
إلى جانب الشهيدة شيرين أبو عاقلة (1971 ــ 2022) التي اغتالها العدو الإسرائيلي أثناء تغطيتها لاقتحامه مخيم جنين، يمكن اعتبار الدحدوح وجيفارا البديري أكثر ثلاثة مراسلين شعبية في الشارع المصري، ليأتي من بعدهم إلياس كرام ووليد العمري، ثم الجيل الأحدث في «الجزيرة»: هبة عكيلة وهشام زقوت. ويمكن القول إنّ الاستمرارية هي السبب الرئيسي في ذلك. فالدحدوح وأبناء جيله يعملون في «الجزيرة» منذ البدايات.
عندما عاد الاهتمام المصري بالقنوات الإخبارية، أسهمت الأقدمية في عدم الحاجة إلى التعرّف على المراسلين المخضرمين. ومع انحياز التغطية إلى المقاومة الفلسطينية، خلافاً لتغطية «العربية» السعودية و«سكاي نيوز عربية» الإماراتية، كان طبيعياً أن تحظى «الجزيرة» بنسبة مشاهدة أكبر. هكذا، تابع المصريون لحظة بلحظة ما يقدّمه الدحدوح ورفاقه، ثم بدأت الفروقات الفردية في الظهور تدريجاً. كان الدحدوح دائماً في قلب الحدث، بعد كل قصف أو حدث. شخصية استثنائية يعرف من يتابعها للمرة الأولى أنّه ليس أمام مراسل يؤدّي واجبه المهني فقط، بل أحد أصحاب الأرض. يعرف كل شبر فيها والناس من حوله مرتاحون له، ويتحدثون معه وكأنّه صديق جاء ليواسيهم، لا صحافياً محايداً حضر للرصد.
ثم جاء التحوّل الأكبر عندما استهدفت الطائرات الإسرائيلي منزلاً لجأ إليه أفراد من عائلة وائل، من بينهم زوجته وابنته وابنه وحفيده. يومها، قال كلمته الأيقونية: «معلِش» (الأخبار 27/10/2023).
غير أنّ هذا المشهد المأساوي المؤثر لم يكن العامل الوحيد الذي أسهم في زيادة شعبية المراسل الشهير وقتها، بل ظهوره على الشاشة بعدها بساعات ليُكمل مهمّته. بدا وكأنّ الدحدوح أحد رجال المقاومة، قبل أن يشاهده الناس ينزح من بيته، مع من تبقّى من أسرته من شمال قطاع غزة إلى جنوبه مع اشتداد المعارك، ليتأكدوا أنه مواطن عادي مثلهم يختلف عنهم فقط بالميكروفون الذي يحمله وخوذة الصحافة الواقية التي يرتديها.
بات الحديث عن سلامة مدير مكتب «الجزيرة» في غزة أمراً يشغل الناس
مع دخول حرب الإبادة شهرها الثالث، بات الحديث عن سلامة «أبو حمزة» أمراً يشغل المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي. وحين نجا للمرة الثانية بينما استُشهد زميله المصوّر سامر أبو دقة، كرّر الدحدوح المفاجأة وظهر بين ركام القصف وكأنه بطل فلسطيني خارق، كما وصفه كثيرون. يخضع للعلاج، ويشارك لاحقاً في تشييع زميله، ثم يعود جريحاً لإكمال مهمّته أمام الكاميرا وكأنّ شيئاً لم يكن. فالوجع والحداد والاستراحة مؤجّلة. كلّ شيء مؤجّل بالنسبة إلى وائل الدحدوح إلى حين زوال الغمامة.
* نقلا عن :الأخبار اللبنانية