أحمد الدرزي*
مع إعلان الولايات المتحدة، على لسان وزير دفاعها لويد أوستن، عن عملية "حارس الازدهار"، ظهر غياب كلٍ من السعودية والإمارات عن الإعلان، على الرغم من ذكر وزير الدفاع اشتراك دول أُخرى آثرت أن لا تُذكر ضمن الدول المشاركة، نتيجةً للموقف اليمني الصارم والمُهدد باستهداف مصادر الطاقة للبلدين ومواقع مختلفة، كما فعل عام 2019.
شهدت الإمارات العربية المتحدة نهضة عمرانية ومالية عظيمة، وتحولت خلال العقود الأخيرة إلى مركز مالي وتجاري مهم جداً قد يكون من أكثر المراكز العالمية بعد نيويورك ولندن وسنغافورة. وقد منحها هذا التحول دوراً لم تكن تتصوره، وهي الدولة الحديثة العهد والاستقلال منذ عام 1971، ما منحها حصانة كبيرة كي تؤدي أدواراً سياسية وعسكرية في السنوات الأخيرة أكبر من قدرتها الديموغرافية.
أدت مجموعة عوامل مساعدة إلى بروز الطموحات الإماراتية لأداء دور إقليمي وأبعد من ذلك، فهناك الملاءة المالية الضخمة التي وصل فيها حجم الناتج القومي إلى 1.2 ترليون دولار عام 2022، مع ارتفاع مستوى القدرات الإنتاجية للنفط، ما يؤهلها لأداء دور أكبر، رغم أن حصتها التسويقية أقل بكثير من ذلك.
قد يكون دور المركز المالي هو الأكثر أهمية في تعزيز الطموحات الإماراتية، ما جعلها مساحة مشتركة لتلاقي كل القوى المتناقضة، فبالرغم من التباين الشديد مع التوجهات السياسية الإيرانية حول مجمل السياسات في منطقة غرب آسيا، فإنها تشكل ملاذاً آمناً للشركات الإيرانية التي تجاوز عددها 6000 شركة، من أجل تجاوز العقوبات الاقتصادية، كما أنها أصبحت ضرورة للصين وروسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى "إسرائيل".
هذا البحث عن دور إقليمي يحميها لا يأتي من فراغ، فهناك مخاطر مشتركة مع السعودية، وخصوصاً ما يتعلق بالدور المتصاعد لمحور المقاومة خلال العقدين الماضيين، وما يمكن أن يشكل ذلك من تهديدات لحجم الدورين الإقليميين للبلدين، وسيطرة تنظيم الإخوان المسلمين على مشهد الربيع العربي المتحالف مع الولايات المتحدة آنذاك، وتصاعد مخاطره كبديل محتمل لقيادتي البلدين، إضافة إلى تهديدات السعودية المتوقعة للإمارات، فما تعمل عليه في مشروع "السعودية 2030" يشكل تهديداً لمركزها المالي العالمي، كما أنها بقدراتها المالية والديموغرافية والجغرافية قابلة للتوسع والسيطرة على مسار سياسات دول الخليج والعمل على التمدد جنوباً وشمالاً لترسيخ نفوذها.
عملت الإمارات على تحصين دورها والتوسع به لتفادي ما تتصوّره من مخاطر بالاندفاع نحو خطوتين أساسيتين، الأولى تتعلق بموازنة مخاطر محور المقاومة بالرهان على إقامة أوسع العلاقات مع "إسرائيل"، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لإحراق كل المراحل، بما يؤمن دوراً إسرائيلياً مباشراً مواجهاً للدور الإيراني، والأمر الثاني هو الاندفاع نحو تغيير الثقافة الإسلامية المجتمعية والتنظيمية، بما يساعد "إسرائيل" على تقبلها اجتماعياً في محيط إسلامي كبير لا يمكنه أن يتحمل فكرة وجود كيان قام على اغتصاب الأرض وتهجير أهلها وتفتيت المجتمعات والدول، فكان مشروع الديانة الإبراهيمية الذي يجعل المسلمين والمسيحيين واليهود ينهلون من ثقافة دينية جديدة تتيح للإسرائيليين العيش بأمان من دون إعادة الحقوق إلى أهلها.
جاءت عملية "طوفان الأقصى" في مرحلة من أصعب المراحل التاريخية على القضية الفلسطينية، بعدما بدأ يترسخ في اللاوعي الجمعي أن فلسطين انتهت، وبعدما انتشر الخراب في بلاد العرب كنتيجة للربيع العربي، ما دفع ببدء إمكانية تقبل هذا الكيان الذي حصد الكثير من المنافع من جراء دمار العراق وسوريا واليمن، وقبلهم جميعاً لبنان.
على الرغم من عدم توقف الحرب الدولية على غزة، فإن تداعياتها أكبر من إمكانية تحديد نتائجها النهائية حتى الآن. وبالرغم من كل المحاولات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية لاحتوائها وتغيير مسار نتائجها، فإن الفشل والعجز عن ذلك يتفاقم مع كل يوم من استمرار هذه الحرب التي ثبَّتت واقعاً إقليمياً جديداً لكل حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، على حساب الرهانات العربية المُعززة لبقاء "إسرائيل" واستمرارها كأقوى قوة في بلاد العرب.
على الرغم من الموقف الإماراتي المتبني لـ"إسرائيل" كلياً منذ بدء عملية طوفان الأقصى، فإن هزيمة "الجيش الذي لا يقهر" ستضع قواعد جديدة في المنطقة، وخصوصاً بعد بروز الدور اليمني الكبير المتحكم في ممرات النقل في البحر الأحمر، بما يشكل ضغوطاً مباشرة على خيارات الإمارات السياسية، ومعها السعودية الباحثة عن مخارج من التهديدات اليمنية بضرب مفاصل اقتصاد البلدين، وما يمكن أن يؤدي ذلك من تداعيات لا يمكن للبلدين تحمّلها في عالم مضطرب يبحث عن رسم خرائط جديدة للعالم، بما في ذلك منطقة غرب آسيا.
من الصّعب على الإمارات أن تتقبل في المرحلة الحالية فكرة انهيار مشروع استبدال الثقافة الإسلامية المترسخة عميقاً بالديانة الإبراهيمية، بعدما عملت عليها طويلاً، بما في ذلك في المناهج التربوية، كما أنّ من الصّعب عليها أن يَسقط رهان التوازن بين إيران، ومعها محور المقاومة، و"إسرائيل" التي لم يعد بإمكانها أداء دور القوة اللاجمة لمن تعتبرهم تهديدات، بل أثبتت لكل العالم أنها هي من يحتاج إلى من يحميه من حركات مقاومة وليس الدول.
تستطيع الإمارات أن تحقق التوازن في علاقاتها من دون الرهان على "إسرائيل"، بل بالرهان على فلسطين التي تمنح حاملي رايتها الحصانة التاريخية والشعبية، إضافة إلى الهامش الكبير لحرية الحركة، وهذا ما قامت به من قبل بفتح طرق واسعة مع الصين وروسيا، بل ذهبت بهذه العلاقة إلى مستوى تحدي الولايات المتحدة بالوقوف مع روسيا في حربها الأوكرانية، ورفضت العقوبات عليها، وجعلت من نفسها مركزاً مالياً للتحويلات الروسية، ووسيطاً لتأمين المعالجات الإلكترونية للصناعات العسكرية الروسية، ومشهد استقبال الرئيس بوتين الأخير مع طائرات السوخوي 35 الأربع يكفي لاختزال قدرة هذه الدولة على الحركة.
كما أنَّ الرهان على محور المقاومة سيعزز بشكل حقيقي دورها الإقليمي، وهي الدولة التي تمتلك إمكانيات أكبر من قطر الصغيرة الحجم، وهي تستطيع الاستثمار بملاءتها المالية وتنوع علاقاتها الدولية القيام بدور إيجابي على منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، وفي قلب القارة الإفريقية.
أمام الإمارات فرصة تاريخية كبيرة لإعادة قراءة المشهد السياسي والعسكري في فلسطين واليمن ولبنان والعراق، وهي صاحبة الدور الإيجابي في سوريا، المناقض لدورها في فلسطين واليمن.
هذه القراءة تستلزم تموضعاً بعيداً من الجمع بين المتناقضات التي لا يمكن لها أن تجتمع، واستمرارها بالسياسات نفسها قد لا يجعلها تخسر الآن بسبب الحصانة التي تمتلكها، ولكن ذلك لا يمكن أن يستمر، فالعالم لا يبقى على حاله، وخصوصاً بالنسبة إلى القوى التي عززت دورها من بوابة فلسطين وليس "إسرائيل"، وتحولت إلى الرقم الصعب الذي لا يمكن لأحد أن يتجاوزه مهما علَت قوته.
* نقلا عن :الميادين نت