أحمد فؤاد*
في أصعب ملاحم الزمن ومعارك المصير الكبرى، تظهر أروع المشاهد الإنسانية، أعز وأرقى الجواهر التي قد نصادفها، فيض الإلهام القادر على قلب التاريخ وهزّه بعنف ومن الأعماق، وجوارها أيضًا تتبلور وتصاغ حكايات الخيانة وصور الخذلان والعار الكالحة المريرة. في فلسطين اليوم؛ لا تنزل الملائكة لتقاتل ضد جيش الاحتلال، ولا تبارك السماء وحور العين المقاتلين، في فلسطين الكل شيطان أخرس، وأمام الدم والأطفال والنساء فإنّ المؤسسات الدينية الرسمية العربية عاجزة رخيصة، قررت أن الفعل الوحيد المتاح هو أن تبيع شرفها وعرضها، لمن حكم أو لمن دفع.
كشفت فلسطين، في أول ساعات نهار "طوفان الأقصى"، الخطاب الفتنوي البغيض ودعاة الشيطان ودجالي العصور، أسقطت الأقنعة عن الجميع مرة واحدة وإلى الأبد. في فلسطين الأقصى والمعراج، لم يخرج شيوخ الدين العربي الرسمي بفتوى واحدة توجب الرفض حتى! ليست فلسطين سورية ولا العراق، حيث اندفعت المنابر إلى التجييش لـ"الجهاد" المزعوم و"النصرة" ضد أعداء الدين، ليس في فلسطين "ناتو" سيضع محمدًا –حاشاه- يده بيده لو بعث من جديد، لم يعد الموت في سبيل الله أمنية شيخ في مصر ولا السعودية ولا الأردن، بل صارت فلسطين تُباع تحت اسم التبرعات - صكوك الغفران المعاصرة ويا للخسة والدناءة.
الخطاب الديني الذي يتبنى الإسلام الحقيقي، لا إسلام قصور الحكم وما أتاكم الـ "C.I.A" فخذوه، في هذه المعركة المصيرية كان قادرًا على توفير النصرة والدعم والحماية لشعبنا الذي يذبح بلا رحمة على يد أقذر استعمار عرفه البشر منذ وجدوا، كان يستطيع أن يوازن مجمع مصالح الصهيونية العالمية ويبدد طاقتها، ويحدّ من جموحها وإفسادها في الأرض، ويحشد جزءًا من موارد الأمة لخدمة أهدافها وشعوبها لا أعدائها، ويلوح كأضعف الإيمان بأوراق قوة وغضب نمتلكها فعلًا، حتى من دون أن يدفع أثمانًا من الأصل.
المسلم الحقيقي بالأصل يصغي السمع لأنّات المقهورين والمعذبين والضحايا، ويرتاع لعويل الأطفال وجوعهم وخوفهم وصرخاتهم، المسلم الذي يعرف أن الإسلام ليس دين استسلام؛ بل على العكس هو دين مقاومة جذرية وأصيلة ومستمرة في وجه كل الطغاة والجبارين، وأن هذا الدين الذي يجري ترويجه على ألسن شيوخ الفضائيات ليس دينًا على الإطلاق، إذ لا يحمل المقاصد العظمى للدين من شرف وإنسانية ونبل، ويعرف يقينًا أنه في أيام الدم فما شيء يقدم غير الدم، لا المقاطعة ولا الأموال قادرة على أن تطهر إنسانًا واحدًا من أثامه في نكبة غزة الحالية.
لم يكن أيضًا غريبًا أن الرد الأوفى على الحرب العدوانية الإجرامية الأميركية السافرة، قد أتى من محور المقاومة الذي ينزف الدم والعرق والألم منذ سنوات طويلة في مواجهة مفتوحة مع واشنطن، إيران المحاصرة اقتصاديًا منذ الثورة الإسلامية، العراق الذي لمّا ينفض عنه تمامًا بعد الاحتلال المباشر، سورية التي تواجه حربًا كونية، لبنان وحزب الله مع الحصار الأميركي المكشوف والمعلن، والذي وصل إلى مرحلة الخنق الاقتصادي والمعيشي، اليمن التي خرجت من نظامها الكئيب الأسبق لتجد حربًا عربية-أميركية عليها منذ 2015، وحتى اليوم، كانت هذه الدول –وما تزال وأثبتت- أنها هي الأسبق والأقدر على الانتصار للحق العربي والإنسان العربي.
ما جرى في فلسطين العربية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر المجيد، لا يجوز للعقل الواعي وصفه بأقل من كلمة "ثورة"، بكل ما تحمله هذه المفردة العبقرية وتختزنه من أحلام بعيدة وأشواق واندفاع، وكل ما تثيره في القلب من حنين جارف إلى العدل والحرية والخلاص، الكلمة التي تلخص وراءها الفعل الإنساني الأكثر سموًا وإشراقًا، انتزاع الحق انتزاعًا، ويعكس مباشرة أكثر المواقف القادرة على اختبار الإنسان ومعدنه، والكشف عن شعوب بكاملها وتعريتها أمام نفسها والعالم، ليس لمعاينة العجز، لكنه فوق كل شيء فضح العجز واستمطار اللعنة عليه وعلى أصحابه، وكانت "المقاومة" هي إجابة الأرواح المؤمنة والسواعد الشريفة المتوضئة والرؤوس المرفوعة كققم الجبال مستمسكين بأنبل القيم الإنسانية المجردة، يقاتلون للمروءة والشرف والشهامة والعزة، يقاتلون لله وللحق، منذ الأيام والساعات الأولى للحرب الصهيو-أميركية دخل محور المقاومة إلى ساحة الوغى، بإرادة شجاعة ونفوس أبية، تأبي أن تقر الهوان على جباه الأحرار، وكان الصاعقة المدوية في وجه الصهاينة العرب بالذات.
الثورة التي بدأت من غزة متلألئة براقة متوهجة، وتواصل حتى اللحظة زحفها المقدس فوق كل حدود متصورة، وتلخّص في مسيرتها الثابتة أساس الدين والإنسانية والشرف، وهي معاني جدّا مرتبطة ببعضها البعض، فالإنسان المسلم المتدين هو شخص يجلّ مبدئيًا أفكارًا حول أفضلية الجهاد وضرورة السعي والانتفاض، ويدرك أهمية النهوض ولديه دافعية للحركة دائمًا، سواء دفعًا لمظلمة عن نفسه، أو انتصارًا لشقيق اجتمع عليه شذاذ الأرض وفجارها، وأعملوا فيه تقتيلًا.
في هذه المواقف المبدئية المعمدة بدماء عشرات الآلاف من أهلنا وأخوتنا ممن يقومون بواجب الجهاد عن الأمة، من المفروغ منه إنه ليس وقت التغيير بالقلب، بل وقت الجهاد بالكلمة ولو عند ملك ظالم، هو وقت إصدار الأحكام النهائية على الجميع، وبلا تمييز أو رحمة، هل لا يستطيع مشايخ وعلماء الدول العربية المجاورة على الأقل لفلسطين الدعوة لإمداد أكثر من مليوني إنسان مثلنا بالماء والدواء، ومحاولة بذل جهد وقف هذا العدوان الوحشي؟ هل تتمتع بريطانيا أو فرنسا بقرب أو دين أو انتماء للكيان أكثر ما نملك نحن تجاه فلسطين؟ هل يتغير الخطاب الديني، وهو مؤثر وضروري ومهم للشعوب العربية، بفعل هذا النهر الجاري بدماء أهلنا؟ هل يستفيق أخيرًا قبل أن ينتهي دور فلسطين ويحل دور غيرها، وهو قادم ومنتظر؟
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري