أحمد فؤاد*
خطابا سماحة سيد المقاومة السيد حسن نصر الله، في مناسبتي "يوم الجريح المقاوم" الثلاثاء ثمّ "ذكرى القادة الشهداء للمقاومة الإسلامية" يوم الجمعة، يمكن عدّهما خطابًا واحدًا ذا فكرة واحدة، ترجمة الأمين لما قدمته هذه الأمة في الحرب، وموقفها الحالي – من دون تجميل - على أرض القتال، ولمستقبلها وحدود شكله بعد الحرب، خطاب أمين مؤتمن، يعلم جيدًا أن الأمة تقف على حافة مصير، وتواجه عدوًا كبيرًا هو الولايات المتحدة الأميركية، بقوتها وبطشها وقدراتها التي لا تُضاهى، وأن الأمة بالتالي تحتاج لكلمة الحقيقة، مهما كانت، ولا تحتمل ظروفها وأوضاعها وحتّى نفسيات شعوبها أن تُترك معلقة في هواء الآمال الخدّاعة، أو أن تبقى مرهونةً بالأهواء.
خطابا السيد عكسا مشاعر الفخر والعزة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المؤمن، كما يجب أن تكون، بقدرة إنسان هذه الأمة على قهر المستحيل، وعلى قلب كلّ معادلاتهم الاستراتيجية فوق رؤوسهم، ببساطة ومن دون تنظير وكلمات رنانة، أن يفعل ما يرتّبه عليه إيمانه وشرفه وإنسانيته.
وضع لنا سماحة السيد مسطرة قياس جديدة لواقعنا، لا تعترف بالمعايير الأميركية والغربية السائدة، بل تتجاوزها، وهي لا تنطلق من تمنيات ولا أوهام وظنون، بل من ضمير يقظ وذكي، يحدد لنا الموقف من أية قضية والطريق إليها، وكانت مناسبتا الخطاب وتاريخهما من أكثر المناسبات التي تتألق بالنور.
لم يكن ما جرى في عملية طوفان الأقصى حظًا سعيدًا وقع فجأة لأمة منكوبة، نيرانها انطفأت وقواها ضاعت أو تبدّدت، بل كانت هي إجابة قلب الأمة النابض على التحدي، كان مخطّط محو القضية الفلسطينية من الوجود، وبدعم ومشاركة فعالة من دول وعروش وجيوش عربية قائمًا، وكانت عملية الابتلاع النهائي للقدس الشريف تجري على الشاشات وأمام العيون، وبلا مواربة ولا تزيين، وكان الهدف النهائي الظاهر إدخال كلّ دول المنطقة – فرادى - إلى الحظيرة الصهيونية التي تتحوّل في هذه الخريطة الجديدة إلى الدولة القائدة والشقيقة الكبرى.
لم يعد لنا مع اقتراب العام 2023 من نهايته من طرف باقٍ سوى محور المقاومة، أن الأمة راحت تلتفت بمزيج من القلق وإحساس العجز إلى أطراف قادرة تسترد لها كرامتها التي تراها قد نُحرت على أيدي حكام العار، ولم تجد حين حلّ "يوم الدم" سوى محور المقاومة، واقفًا على جبهات النار وميادين الشرف يردّ على المؤامرات، ويردع العدو، ويرده خائبًا المرة بعد المرة، ويقدم الحلول الشاملة لعواقب هذا الخيار النبيل، وصولًا حتّى لمفاجآت المعارك وتغيراتها، مع الدخول الأميركي والأوروبي إلى ساحاتها بجبروت فاجر.
ما وصفه سماحة سيد الوعد الصادق، في خطاب الثلاثاء، كان هو حافز الحركة عند حزب الله، ووقود الدفع باتّجاه استجابة صادقة لمعركة واجبة ومفروضة، رد الحزب الهائل كان إشعال جبهة شمال فلسطين نارًا على الاحتلال، وقال السيد إن: "ما نقوم به هو بالدرجة الأولى استجابة صادقة للمسؤولية الإيمانية والأخلاقية والدينية، ما نقوم فيه في جبهتنا اللبنانية هو كذلك مسؤولية وطنية بالدرجة الأولى لمنع انتصار إسرائيل".
وفي خطاب الجمعة؛ استكمل الأمين الفكرة الأصيلة، بقوله إن: "مسؤولية المقاومة هي التي حددت الموقف والطريق والهدف، وإن التضحيات هي مسؤولية الهدف الذي تحمّله القادة والشهداء"، وبالتالي كان منطقيًا أن رد حزب الله على التهديدات الأميركية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان بدء العمل المقاوم في اليوم التالي مباشرة، وفتح الجبهة الشمالية للعدو بطولها الكامل والممتد أمام المجاهدين صونًا لمعادلات الردع التي رسخها الحزب بالدم خلال 17 عامًا كاملة، من 2006 إلى 2023.
ليس الفارق في طوفان الأقصى هو نتائج مادية مباشرة، من قصف للعدو وتقتيل جنوده وتمزيق وحداته وقدراته العسكرية، بل جلال فعلها يكمن في أنها بعثرت فكرة الدولة الآمنة، وهي تستنزف إمكانات بقائها كلّ ساعة وكلّ يوم قتال إضافي، الفارق أن العالم العربي هذه المرة –وفي مواجهة حلف عدواني واسع - ودّع زمن تقديم عرائض الاسترحام، وأغلق فمه، وفتح النار مباشرة.
في اليوم 135 للحرب، دخل كيان العدوّ مرحلة الغيبوبة وسيطرت على جسده وأطرافه الخدر، وانتقل بجملته إلى مرحلة اليقين بالخطر الفائق على الجبهات كلها، وبالقلق الوجودي على مصير بالزوال الحتمي. وهم يعرفون أنهم تحت قيادة غبية مهتزة، ورئيس وزراء يحارب لمصالح بقائه في الحكم، وفي ظلّ ما فتح عليها عداونها على الشعب الصامد في غزّة، من ردود عسكرية فارقة من حزب الله في شمال فلسطين ومن فصائل المقاومة العراقية، ثمّ الضربة الهائلة من اليمن، وبات يستشعر الموت يسقط عليه من كلّ مكان، ولا يستطيع أن يغلق جبهة واحدة، وصلنا إلى مرحلة عجز الكيان وجيشه الورقي عن النجاح في ملف واحد، من ملفات مفتوحة، ولن تُغلق أبدًا.
اليوم بالذات تخرج من الإعلام الصهيوني للمرة الأولى فكرة "قبول الهزيمة" أمرًأ واقعيًا ومنتهيًا، الدعوات بدأت لأن يتحلّى بنيامين نتنياهو ببعض العقل فيعلن عن وقف العدوان في غزّة، ويحاول أن يوقف النزيف الذي يعانيه الكيان بلا جدوى، قريبًا جدًا وليس بعيدًا سيخرج نتنياهو ويكذب بأنه "حقق أهدافه" في غزّة، ويوقف إطلاق النار.
الإعلام الصهيوني هو من يتحدث اليوم عن "قوة إقليمية" جديدة تتمثل بحزب الله، قوة جديدة آخذة بالتشكّل والنمو، ولعلّ هذا بالذات أكثر ما يقلق الصهيوني، لأنه يعلم أنه أمام طرف لا يساوم ولا يعرف طريقًا للتراجع، وأن الواجب الجهادي والعقائدي للحزب لا يجعل منه مجرورًا إلى شراك عملية سلام، بأية طريقة كانت، بالترغيب أو بالترهيب، وهذا ما يقضّ مضجع العدو، ويرفع طموحاتنا في مواجهته.
على طول ساحة المواجهة المشتعلة في المنطقة العربية، تخوض المقاومة أنبل معركة في تاريخنا الحديث، وتقدم على كلّ الجبهات جهدًا عسكريًا وتنسيقًا راقيًا ومفاجآت مدوية تكسر العدوّ الصهيوني، وتحارب في الوقت ذاته وتحطم فكرة "الهيمنة الأميركية" من الأصل، وبفعلها الأجل والأعظم، تقدم لشعوب ما تزال ساقطة في فخ حكامها الخونة بسيف الخوف والجيوش الضخمة الجرارة، الفرصة لإعادة الأمل في قدراتها يومًا قريبًا على سحقهم.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري