يستخدم الإعلام بكثافة مصطلح "رسم صورة نصر" لوصف الأهداف الصهيونية من استمرار الحرب المجرمة على قطاع غزّة، وهو الهدف المرتبط بمحو صورة الهزيمة التي رسمتها المقاومة يوم 7 أكتوبر.
بين الصورتين حدثت حرب كبيرة في أحداثها ونتائجها وانعكاساتها على العالم كما عرفناه قبل حرب طوفان الأقصى. آلاف الضحايا أمام الكاميرات تعكس صموداً أسطورياً يتجاوز ما عرفناه عبر تاريخ الحروب، وفي الوقت نفسه يعكس بشاعة الرأسمالية العالمية بكل أدواتها ورغم كل التباينات بين دولها، كما يعكس قدرة هذه الرأسمالية على ارتكاب ودعم المجازر بكل وقاحة متجاوزة أبسط حقوق الإنسان؛ حقّ الحياة.
في الحرب العالمية الثانية التي تعتبر أكبر الحروب في تاريخ الإنسان، لم ينخفض إجمالي الناتج المحلي لأي دولة حتى نقطة الصفر، لكن هذا يحدث في غزة اليوم. النازية التي صنعت تلك الحرب بكلّ مآسيها لم تجرؤ على إعلان قرارها منع الغذاء والدواء عن أعدائها ورغبتها بقتل جميع أطفال العدو، لكن هذا حدث في "تل أبيب" وفي واشنطن.
عندما خرج الشعب الأميركي للاحتجاج على حرب فيتنام، كانت مظاهراته رغم تنظيمها الدقيق، تخرج إلى الشوارع بمطالب عامة أهمها شعار "أعيدوا أبناءنا"، ولم تكن حماية المواطنين الفيتناميين أولوية أساسية في هذه المسيرات.
اليوم تخرج مسيرات باتجاه أهداف محدّدة مثل منظمة أيباك وشركات السلاح والقنوات الإعلامية الداعمة للاحتلال، بشعارات تطالب بالحرية لغزّة وأهلها وإيقاف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، رغم عدم مشاركة الجيش الأميركي بشكل علني في المعركة.
في أوروبا تتمتّع الحركة الصهيونية بنفوذ كبير في الشارع وبين المثقّفين، بحكم الرواية التاريخية المتعلقة بالهولوكوست، والتي تحمّل الأوروبيين تلك الخطيئة، وتجبرهم جيلاً بعد جيل التكفير عنها من خلال دعم الكيان الصهيوني في فلسطين مادياً ومعنوياً.
لكنّ المسيرات التي تجوب شوارع المدن الأوروبية اليوم، ليست تعبيراً عن دعم غزّة فحسب، بل تمثّل إدانة للاحتلال، ولشرعية وجود دولته، وتشير إلى انعتاق هذه الجماهير من عقدة الذنب، واستعادتها لموقعها الذي فقدته منذ نهاية الستينيات عندما كانت تخرج دعماً لحركات التحرّر الوطني في جميع أنحاء العالم.
إنّ شعار "من النهر إلى البحر، فلسطين حرّة" ليس مجرد شعار يمتعنا سماعه يتردّد في عواصم الدول التي طالما ساهمت في حرماننا من حقوقنا، فهو يمثّل مراجعة حقيقية لموقف الشارع والمثقفين في أوروبا من قضيتنا، وهو ما يحمّلنا مسؤولية البناء على هذا الموقف والتماهي معه، بعيداً عن القوالب التقليدية التي جعلتنا ننتهي، دائماً، بخسارة داعمينا أمام سطوة الخصم، وتقاعسنا عن المتابعة.
العالم من حولنا تغيّر، ليس فقط فيما يتعلق بقضية فلسطين، ولكن في نظرة العالم إلى موضوع التحرر الوطني بشكل عام. يشكّل التهديد الذي يمثّله الموقف من فلسطين لمواقع السياسيين في الكثير من دول العالم، سابقة ستجعل هؤلاء السياسيين يعيدون تقييم مواقفهم من حركات التحرّر الوطني في العالم بوصفها أحد محرّكات الرأي العام في بلدانهم، وأن عليهم أخذها بعين الاعتبار. إن الحديث عن تغيّر توجّهات العرقيات والقوميات في الكثير من الدول الأوروبية، وكذلك بعض الجمهور الأبيض كما هو الحال بالنسبة لجمهور حزب العمال البريطاني، إنما يعكس الأثر الحقيقي الذي تتركه معركة طوفان الأقصى على الوعي على المستوى العالمي، وأن نتائجها تتجاوز كل ما حدث في الميدان لتترك أثرها على نطاق العالم كله.
الغريب أن هذا التغيير في الموقف العالمي لم ينعكس على مستوى الواقع السياسي والشعبي العربي، فلغة الخطاب لم تتغيّر وما زلنا نسمع اللحن القديم نفسه عن حلّ الدولتين، والسلام الموعود وشروطه، ومطالبة العدو الصهيوني والأميركي بالنظر بعين العطف إلى مشاريع التسوية العربية. حتى القوى الوطنية والمثقفون الداعمون للمقاومة ما زالوا ينطلقون في مواقفهم من وعي سابق للتغييرات العظيمة التي تلت معركة طوفان الأقصى.
ما زال هؤلاء المثقفون يجتمعون إلى بعضهم البعض، ويبشّرون بين المؤمنين، ويغيب عنهم أن العالم أصبح أكثر استعداداً لسماع أصواتهم وتصديق روايتهم. لم نرَ أياً من مثقّفينا يقتحم اجتماعاً لمجلس النواب في بلده ليطالب بقطع العلاقات مع العدو، أو بزيادة الدعم للمقاومة، لم نرهم على الشاشات وصفحات التواصل الاجتماعي يخاطبون العالم بلغة يفهمها، بدل التركيز على عبارات ومصطلحات تجاوزتها الأحداث والصور والقناعات.
علينا اختراع لغة جديدة، نصف فيها أنفسنا ونضالنا ومقاومتنا. لغة يفهمها العالم ويصدّقها. لغة تشبه لغة المقاومة السياسية والعسكرية التي يصدّقها خصومها قبل مؤيّديها.
أن نصنع ثقافة تجعل من المقاومة فعلاً وقناعة يومية عند الصغير قبل الكبير، من خلال صورة أو فكرة أو تبرّع أو أغنية أو مقاطعة. لقد قدّم الشهداء في غزّة والضفة وجنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن حيواتهم ثمناً لتغيير العالم، وواجبنا أن نستيقظ كلّ صباح لنقول ماذا سنفعل اليوم كي لا تضيع تضحياتهم هدراً؟
* نقلا عن :الميادين نت