وظّف الغرب المنتصر في الحرب العالمية الثانية دعاية "الهولوكوست اليهودية" في حربه على النازيين لشيطنتهم، ووظفها الكيان الصهيوني بدوره لاحقًا لإبقاء الأوروبيين تحت مقصلة عقدة الذنب التي تجبرهم على تقديم قرابين التعويض عمّا فعله أسلافهم، فكانت فلسطين الضحية الأولى عام 1948، لكنّها كانت بذات الوقت "هولوكوستًا" حقيقيّة وليست وهميّة، يوم هجّر شعبها بأكمله من أرضه وحلّ مكانه مستوطِنات ومستوطنون صهاينة. ولا زالت هذه "الهولوكست" متواصلة منذ خمسة وسبعين عامًا، وآخر حلقاتها محرقة غزّة وإبادة شعبها على مرأى العالم أجمع، فيما لا يزال الصهاينة يستخدمون "هولوكوستهم" المزعومة لجذب التعاطف الدولي معهم وتصوير أنفسهم على أنهم هم الضحايا.
تاريخيًا، تعود جذور مصطلح "هولوكوست" إلى أحد تلامذة سقراط في المرحلة اليونانية، وقد تطوّر عبر الزمن، ليعود ويستخدم للمرة الأولى في عام 1895، وذلك من قبل كتّاب بريطانيين للتعبير عن الإبادة الجماعية للأرمن (المحرقة الأرمينية) من قبل الامبراطورية العثمانية. لاحقًا وتحديدًا منذ عام 1978 عملت مؤسسات الدعاية الصهيونية على "صهينة" مصطلح "الهولوكوست"، وسخّرته لإخفاء دعم الدول الإمبريالية لحروب الصهاينة التوسعية خلف قناع إنساني، وهي لم تشذ بذلك عن عرابتها الولايات المتحدة الأميركية التي شنّت أعظم وأطول حرب إبادة جماعية عرفها التاريخ أدت إلى إبادة سكان قارة بأكملها يزيد عددهم عن 112 مليون إنسان (الهنود الحمر) فلم يبق منهم سوى 250 ألف شخص.
شكك كثيرون في حصول "الهولوكوست" من أساسها واعتبروها أكذوبة وأسطورة وهمية صنعتها الماكينات الإعلامية الغربية لاكتساب مشروعية في الحرب ضدّ النازية، بينما رأى آخرون أنه جرى تضخيمها، وذلك بهدف لعب دور الضحية والاستثمار الغربي فيها، لتحصيل مكاسب دولية، عبر جعل الغرب يدفع ثمن فاتورة ما ارتكبه أسلافهم من إبادة مزعومة بحق اليهود.
الكاتب والباحث الفلسطيني سعيد دودين، كشف سابقًا زيف اسطورة الناجي من المحرقة "إيلي فيزيل" وأنه اختراع وصناعة ""الموساد" الإسرائيلي"، مشيرًا إلى أن بحثًا أجرته مؤسسته البحثية "عالم واحد" لمدة سنتين في أرشيفي سجني "أوشفيتز" و"بخنفالد"، أثبت أن فيزيل لم يكن لحظة واحدة في حياته في معتقلات النازية، وأن القصّة التي حصل عنها على جائزة للسلام (قصة نايتويل ليل) نشرت سنة 1954 من قبل سجين هنغاري اسمه "نيكلاس غرينير"، سطا فيزيل على سيرته الذاتية وترجمها للغة الفرنسية باسمه".
أسطورة الناجين تلك وتحويلهم لأيقونات يقصون معاناتهم المزعومة وكيف نجوا من معسكر الموت "أوشفيتز"، تستفيد منها "إسرائيل" بجعل الناجين كسفراء استعطاف، من خلال تنظيم جولات لهم وفعاليات في مختلف دول العالم بما فيها الدول العربية (مصر، دبي،..)، بعد أن تمكّنت من انتزاع يوم رسمي من الأمم المتحدة لإحياء ذكرى "الهولوكوست". واليوم من المؤسف والمخزي أن دولًا عربية تستضيف على أراضيها فعاليات لتلك المحرقة المزعومة، بل وذهب بعضها (الإمارات والمغرب) إلى التنظير بشأن أهمية معرفة العرب بتفاصيل المحرقة اليهودية، بل وتوجه آخرون نحو إدراج مناقشة المحرقة وغيرها من الإبادات الجماعية الأخرى في مناهجهم التعليمية، لكنّهم يقفون اليوم بل ويشاركون في المحرقة الفعلية التي يمارسها جيش العدوّ الصهيوني بحق أهالي غزّة العزل، كما تواطؤا بالأمس على كامل فلسطين عام 1948.
فصّل الغرب (دول الحلفاء) المزهو بنصره بعد الحرب العالمية الثانية، منظومة دولية لحل النزاعات بالطرق السلمية، وقونن بدموع التماسيح معاقبة الإبادة الجماعية على مقاسه، فتعاهد المنتصرون على منع حصول إبادة جماعية جديدة في عالم ما بعد الحرب، بعدما سردوا رواياتهم المزعومة حول "الهولوكست"، وادعوا أن النازيين ارتكبوها بحق اليهود دون أن تثبت حقيقة تلك السردية من مصدر آخر سواهم. لكن ازدواجية المعايير أنتجت قوانين معاقبة إبادة لا تشمل مجازر المنتصرين الشنيعة خلال الحرب، لا سيما إبادة مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، فالمحاكم والقوانين يصنعها المنتصر ليس ليشنق نفسه بيده بها إنما لينكّل بأعدائه بعد هزيمتهم وينتقم منهم شر انتقام.
هكذا إذًا حاك الغرب إسطورة الهولوكوست الوهمية ضدّ اليهود وتباكى عليها، لكنّه لم يقف يومًا حائلًا دون وقوع "هولوكوست" حقيقية كما جرى ويجري هذه الأيام في غزّة من سحق لأجساد أطفالها الطرية وسحل لنسائها؛ فمشاهد غزّة الوافدة تقشعر لها الأبدان، وذاك واضح من هزها للضمير وتحريكها لحس الإنسانية لدى الرأي العام العالمي، فحتّى بعض من يدعون أنهم ناجون من "المحرقة" لم يتمالكوا أنفسهم وعبّروا عن تعاطفهم مع غزّة كما فعل الطبيب اليهودي غابور ماتي، حينما قال للمذيع البريطاني بيرس مورغان: عليك زيارة غزّة للوقوف على حقيقة "إسرائيل"، أو كما فعل المخرج البريطاني جوناثان غليزر خلال خطاب فوزه بالأوسكار عن فيلم "منطقة الاهتمام" (The Zone of Interest) إذ أدان الاحتلال "الإسرائيلي" بقصف غزّة واتهمه باختطاف "الهولوكوست"، أو كما عبّرت الكاتبة اليهوديّة ماريون إنغرام (88 عامًا) "الناجية" من "الهولوكوست"، عن حزنها لما يشهده قطاع غزّة بقولها: "نجوت من الهولوكوست وأعيش الآن ما يعيشه أطفال غزّة".
في الخلاصة، شبّه بنيامين نتنياهو ما حصل يوم 7 أوكتوبر بـ"المحرقة اليهودية" في المانيا النازية بهدف التلاعب بالرأي العام وتجنيد تعاطف دولي مضلل لكسب شرعية دولية في حربه على غزّة، وبفضل الماكينات الإعلامية الغربية والحكومات تمكّنت حكومة الاحتلال فعلًا من تضليل العالم لكن إلى حين اكتشف وشاهد بأم عينه أن ما يقوم به جيش الاحتلال "الإسرائيلي" من إفراغ عشرات آلاف الاطنان من القذائف على قطاع محدود كغزّة وعلى أبرياء عزل هو محرقة غزاوية حقيقية، و"هولوكوست فلسطينية" فظيعة لم يحصل مثيل لها عبر التاريخ، فهل نحسن توظيف تلك المحرقة الحقيقية دوليًّا لاستنهاض العالم وفضح حقيقة الكيان المؤقت العنصرية والإجرامية؟!
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري