يوسف فارس*
ليس سرّاً أن جيش العدو الإسرائيلي الذي قاتلته المقاومة بريّاً في حرب عام 2014، لم يَعُد هو نفسه الذي واجهته في معركة «طوفان الأقصى». في تلك الحرب، لم يكن الجندي الإسرائيلي المقاتل أكثر إبداعاً وشجاعة، بل هو ذاته الجندي الخائف الذي يضع حياته وسلامته فوق كل هدف واعتبار. لكن الجديد، أن شعور التهديد الوجودي، وقدْر الإهانة التي مُنيت بها المؤسسة الأمنية برمّتها، يوم السابع من أكتوبر، قلّصا من حساسيّة كل مؤسسات الدولة للخسائر البشرية. وفي مقابل تلك الاندفاعة التي كان واضحاً أنها أكبر من طاقة استيعاب المقاومة، بالنظر إلى حجم الغطاء الناري الذي لم يسبق له مثيل في أيّ حرب أو جولة أو معركة سابقة، ظهر «مبدأ المرونة» الذي ذكره الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، «أبو عبيدة»، في خطابه الذي سبق التوغّل إلى منطقة حي النصر شمال غربي مدينة غزة، في الشهر الأول من العملية البرية. ويشير «مبدأ المرونة» إلى تمرير صدمة التمهيد الناري الذي لا يمكن مجابهته، حتى وإنْ سمح لدبابات العدو بأن تتوغّل في عمق الحواضر الآمنة، وما قد يرافق ذلك من صدمة معنوية. فالفكرة هنا، هي تحرير مفهوم الانتصار والهزيمة من قدرة العدو على التوغّل البري، ونقله إلى مربّع آخر، يتعلّق بكسر الأهداف الكبرى للحرب، وفي مقدّمها استسلام «حماس» واستعادة الأسرى بالقوّة، والوصول بالمقاومة إلى مرحلة الموات الميداني... وهو ما كان.لقد دفعت المقاومة أثماناً كبرى، خصوصاً على الصعيد المعنوي في بعض المراحل، لكنها استطاعت، بـ»مبدأ المرونة»، أن تكسر الارتباط الشَّرطي بين التوغّل البري والهزيمة المطلقة، وأن تنقل الفعل الميداني من مربع الاستماتة الجذرية في منع التوغّل، إلى العمل الهادئ الذي يراعي الحفاظ على الأرواح والاقتصاد في الذخيرة، ورفع تكلفة الحضور البري في شوارع القطاع، وحرمان العدو من أيّ فرصة لتنفيذ عملية عسكرية متزامنة تطاول كل مناطق غزة دفعة واحدة. وعلى طريق ذلك، طوّرت الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة وجدّدت تكتيكاتها القتالية، انطلاقاً من دراسة سلوك جنود العدو ومراكمة تحليل سيكولوجية القتال والاحتماء لديه. لا بل إن الكثير من العمليات، أَظهرت أن المقاومين استطاعوا تحليل نقاط ضعف وسائل الرقابة المقاتلة المتمثّلة في الطائرات المُسيّرة وطائرات «الكواد كابتر»، فضلاً عن تمكُّنهم من تطويع جغرافيا الحرب لمصلحتهم.
استطاعت المقاومة، بـ«مبدأ المرونة»، أن تكسر الارتباط الشَّرطي بين التوغّل البري والهزيمة المطلقة
ومن هنا، يُفهم ما نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن جنود وضباط شاركوا في معارك خانيونس، من أن «القتال في غزة معقّد» ومقاتلي «القسام» يغيّرون تكتيكاتهم خلال الحرب المستمرّة على القطاع لليوم الـ288. ويقول بعض الجنود: «كان المقاتلون يخرجون أحياء من تحت الأنقاض بعد قصفهم لأنهم اتّخذوا أقبية محمية بالخرسانة المسلحة كملاجئ لهم». وعلى الرغم من أنه لا معلومات تؤكد صدق ما يعتقده الجنود، لناحية تكتيك بناء الأقبية المحمية بالخرسانة، لكن مبدأ إعادة إحياء الفعل العسكري في غضون القصف وخلاله، حاضر بفعالية. ومن ذلك، ما نشرته «كتائب القسام»، مطلع الشهر الجاري، من مشاهد ظهر فيها مقاوموها وهم يحفرون نفقاً في مدينة رفح، أُعدّ خصوصاً لتنفيذ مهمّة واحدة تمثّلت في تدمير رتل دبابات كان يمرّ من أحد الشوارع، إذ إن الذي يمتلك الإرادة ليحفر نفقاً لتنفيذ مهمّة واحدة بشكل متقن، هو مستعدّ لفعل ما هو أكبر من هذا بكثير. كما أن التحليل الأولى لبعض المقاطع التي نشرها الإعلام العسكري لـ»القسام» و»سرايا القدس» في معارك جباليا، مطلع أيار الماضي، يشير إلى أن عدداً كبيراً من الأنفاق التي استخدمها المقاومون للهجوم من مسافة قريبة جداً على دبابات العدو، حُفرت عيونها من مناطق تمّت تسويتها وتمشيطها بدبابات «دي ناين»، أي إن عين النفق الجديدة التي استُحدثت بالقرب من المكان الذي تعسكر فيه الآليات، حُفرت وافتُتحت في خلال المعركة.
في خلاصة الأمر، تمكّنت المقاومة، خلال هذه المعركة، ليس فقط من تجديد تكتيكاتها القتالية، إنّما من تجديد البناء الهيكلي لديها، من جيش هجين شبيه بالنظامي يمتلك قائداً عاماً وقادة كتائب وسرايا وفيالق عسكرية، إلى مجموعات وزُمر وعقد قتالية تعمل بشكل غير مترابط أفقياً، ويربط بين جميعها تواصل عمودي. كل ذلك وأكثر مما ستكشفه الأيام أو السنوات القادمة، فعلته المقاومة أو اضطرّت لفعله بسبب ما تكبّدته من تكاليف بشرية ولوجستية فرضتها أكبر معارك إسرائيل على الإطلاق، كي تطرد من قاموسها فكرة الاستسلام ورفع الراية البيضاء.
* نقلا عن :الأخبار اللبنانية