يَربِطُ مَحفَــلُ وارسو الذي نظّمتهُ الإدارةُ الأمريكية على ذوق ومقاس نتنياهو، وساقت مُمثلي عشراتِ الدول إليهِ سوقاً، ومَحفل المنامةِ رابطٌ واحدٌ واضحُ المَلامِحِ على الرغم مِن اختلاف عنوانيهما.
هذا الرابطُ يتمثّلُ في استهداف عَقل المواطِن العربي بِشكل عام والخليجي بشكل خاص؛ بُغية مَحو فلسطين والقُدسِ مِن ضَميره الديني ومِن ذاكرتهِ التأريخية ومِن وعيهِ القومي والسياسي.
ويسعى هذا التوجُّهُ الذي تتكالب فيهِ الإدارةُ الأمريكية والكَيانُ الصهيوني وحُكام السعودية والإمارات والبحرين، إلى ترويض المُواطن الخَليجي وجعلهِ يَتقبّل بل ويرحب بالكَيان الصهيوني ويعتبر وجودَهُ طبيعياً وشرعياً.
تترافق هذهِ المساعي التي بدأت في وارسو وتواصلت في المنامة مَع إشهار شكل جديد من أشكال الصهيونية غير اليهودية هو الصهيونيةُ الخليجية، ونعني بِذلك الحُكَّامَ والنُّخبَ الذين يتبنون الدعاوى الصهيونية ورواياتها التأريخية والتوراتية.
لا يتضمن القَولُ بِبروز صهيونية خليجية كأحد ضروب الصهيونية غير اليهودية أيةَ مبالغة أو مَجازٍ، فالصهيونية غير اليهودية، كما تعرفها الباحثة ريجينا الشريف في كتابها [الصهيونية غير اليهودية. جذورها في التأريخ الغربي. سلسلة (عالم المعرفة)،الكويت، العدد96، ديسمبر 1985] هي ((مجموعةٌ مِن المعتقدات المنتشرة بَين غير اليهود والتي تهدف إلى تأييد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين بوصفها حقا لليهود، طِبقاً لبرنامج بازِل. وعلى ذلك فالصهيونيون غير اليهود هُم أولئك الذين يؤيدون أهدافَ الصهيونية ويشجّعونها بِشكل صريح أو مُقنَع)، والمقصودُ ببرنامج بازِل هو الوثيقة التي وافق عليها المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة هرتزل عام 1897 الذي دعا إلى إقامة وطن قومي آمن ومعترَف بهِ قانونياً لليهود في فلسطين. وما نشاهِدُهُ مِن سياسات وجهودٍ وخِطاب إعلامي تصدر عن حُكامِ السعودية والإمارات والبحرين يتجاوز الاعترافَ بِما تَضَمنهُ برنامج بازِل إلى العمل على تثبيتهِ في فلسطين وتقديم العَون المالي الكبير والتعاون السياسي والاستخباراتي، ومشاركة الكَيان الصهيوني خططَه وأطماعَه في زعزعة أمن دولٍ عربية وإسلامية ومعاداتها سراً وعلانية، وفي تَمكين الكَيان الصهيوني مِن السيطرة على بِحارٍ وجُزُرٍ عربية طالما طَمع بالوصول إليها. وَوصل الأمرُ إلى حَــدِّ قيام إعلاميين ومغردين مرتبطين بدوائِر الحكم في الأقطار الخليجية المذكورة بتسخيفِ نضالات الشعب الفلسطيني وتحقير تضحياتهِ، والادّعاء بعدم ارتباط القدس بالدين الإسلامي بأي شكلِ مِن الأشكال. وتبلغ الوقاحة بأحد السعوديين هو المَدعو فهد الشمري إلى القول بأنهُ صلى في أحد مساجد أوغندا، وأن هذا المسجدَ هو أشرفُ مِن القدسِ وأهل القدس.
لم تكن هذهِ الطفرةُ الصهيونية الخليجية بنت يومِها، بل هي ثمرةُ جهود طويلة ومتشعبة تغلغلت عبرها المعتقدات الصهيونية إلى دوائِر الحكم في الدول الخليجية من خلال المؤسّسات الغربية الحامية والراعية للحكام، وهي التي رعتهم وأشرفت على تربيتهم منذ الطفولة وتمسك مفاتيح أمنهم الشخصي وتعرف أهواءَهم وميولاتهم وحالاتهم النفسية.
وبغير هذه الخلفية يستحيلُ فَهْمُ وصول ابِن سلمان إلى الإمساك بكل مقاليد حكم المملكة كما يستحيلُ فهمُ تمكُّن محمد بن زايد مِن أن يصيرَ الحاكِمَ الفعلي الأوحدَ لدولة الإمارات. أما حاكمُ البحرين فهو دُمية الدمية السعودية؛ ولهذا تأخذُه العزة بالعار وبالفضائح بلا أستار. في تأريخ انتشار وانحسار الصهيونية بعد قيام دولة ((إسرائيل)) محطات ذات دلالة. ففي عام 1975 صوّتت الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة على اعتبار الصهيونية شكلاً مِن أشكال العنصرية، وفي عام 1991 ألغت هذا القرارَ بموافقة 111 دولة ومعارضة 25 دولة فقط، وفي هذا العام 2019 فتحت لها –أي الصهيونية- عواصمُ خليجيةٌ أبوابَها وأفئدةَ حكامها، فتخلجنت الصهيونيةُ وأُعلن ميلادُ صهيونية خليجية أكثر ابتذالاً وتطرُّفاً من الصهيونية الغربية المسيحية والعلمانية معاً!.