في الوعي الجمعي العربي فكرة الخوف من الآخر والريبة هذا الخوف وتلك الريبة حاصرتا الذات في زوايا مغلقة ومحكمة , لذلك كان التفاعل محدودا ومعدوما في فترات تاريخية كثيرة , وظل العرب على مسافة كافية من البعد عن دوائر التأثير والصنع في تحديد مسارات النظام العالمي الذي يفرض عليهم اليوم هيمنته, ويوجه مسار الأحداث الى الجهات التي يتغيا دون مراعاة للعرب ولا لقيمتهم ولا لمصالحهم , إلى درجة أن كيسنجر أطلق تصريحات تقول لابد من السيطرة على مصادر الطاقة لتسهل هيمنتنا على الحكومات , والتحكم بالغذاء لتسهل الهيمنة على الشعوب , وقبل ذلك لابد أن نقتل أكبر عدد من العرب , وهذا لو أمعنا النظر هو الذي يحدث اليوم .
ولذلك يرى الكثير من المفكرين أن الهند نجحت في التعالي على الأجانب لا عبر هدايتهم إلى الديانة أو الثقافة الهنديتين بل عن طريق التعامل مع تطلعاتهم بقدر رفيع من الاتزان ورباطة الجأش , فقد دأبت على التعامل مع المستويات الحضارية الجديدة وأذابتها في بوتقة الحياة الهندية دون خوف , فعظمة الهند تكمن في قدرتها على التحدي ضد أي تأثير غريب ولذلك فرضت تأثيرها وشروطها على النظام العالمي الجديد , وهي تجربة إنسانية فريدة يمكن الاستفادة منها , وإن كان لدينا أسس هذا النوع من التعايش تجسدت بذرته في “وثيقة المدينة ” لكن الفكر العربي ظل محكوما بالنص , ولذلك تقيدت حركة تطور المجتمعات .
وحتى نعي المستوى الحضاري الجديد الذي وصل اليه البشر لابد أن نسلم بالحقيقة الجوهرية الثابتة التي ترى أن الفكرة الدينية فكرة ثابتة لا يمكنها التغير في بعديها العقائدي والأخلاقي بقطعية النصوص , ولكن المشروع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قابل للتحول والتبدل ويمكن ابتكاره وإبداعه من تفاصيل الزمن الحضاري ولذلك فقضيتنا لا تنحصر في موضوع الدعوة وفرض ثقافتنا وعقائدنا على الآخر فقد حصرها النص الديني بالبلاغ والبلاغ قابل للتحقق من خلال المشروع الاجتماعي والسياسي وشواهد التاريخ دالة على ذلك .
إذن تشذيب التراث من كل شوائبه التي فرضتها الضرورات التاريخية والسياسية هو البداية المثلى لصناعة مشروعنا السياسي الذي يتفاعل مع العالم من حولنا ليكون مؤثرا فيه لا متأثرا به , والآخر يخاف من المشروع السياسي المتجدد ولذلك سعى الى اغتيال رموز النقد والتنوير واستمال العلماء اليه ومن رفض نالته يد الغدر ولو جال البصر في الزمن المتأخر منذ عقد الثمانينات في القرن العشرين لرأينا هذه السياسة بشكل جلي وواضح , لكنه لا يخاف الفكرة الدينية بل تعامل معها بقدر من التفكيك والتشويه وشواهد ذلك كثيرة بدءا من أفغانستان ولا نقول انتهاء بداعش فالقائمة ليست محددة بزمن .
لذلك نرى التأكيد على مبدأ التعايش , من خلال صيغة جامعة , فالتفرد أصبح مستحيلا وهو محكوم بالنهايات التراجيدية وبدوائر الصراع , ويمكننا قراءة ملامح المشهد في نقاط كالتالي :
– التفرد مستحيل ومن حق الكل أن يعبر عن وجوده .
– الشراكة الوطنية ضرورة وطنية لابد من تعريفها وتجديد أهدافها .
– المصالحة الوطنية – ولو حصل فيها غمط – ضرورة مرحلية حتى نجتاز عتبة التآمر وترتيب البيت من داخله .
– مراجعة الذات والبناء المؤسسي القادر على التفاعل مع المستويات الحضارية الجديدة , والقادر على صناعة مشروع سياسي مؤثر في النظام العالمي غير متأثر به .
– تنمية الذات والأشتغال على تفجير طاقاتها , وتنمية حركة النقد وصناعة الرموز الثقافية الواعية القادرة على صناعة الأبعاد الاستراتيجية .
– تنمية البعد الثقافي والاستفادة من توظيف كل الفنون لخدمة المشروع السياسي والاقتصادي كما دأبت بعض الدول كتركيا مثلا .
***
تلك النقاط يجب أن تكون نصب أعيننا قراءة ودرسا وبحثا وتمحيصا فالحرب قاب قوسين أو أدنى فكل المؤشرات تقول سوف تضع أوزارها , ونحن نتوقع – بل أصبح واقعا – أن يكون هناك توجه لخفض نسبة التوتر في الجبهات العسكرية والاشتغال على التدافع بين الفصائل بعد أن بلغ المستعمر غايته من السيطرة على مصادر الطاقة والتحكم بخط الملاحة الدولي والسيطرة على منافذ الغذاء .
لذلك يصبح الاستغراق في الحرب عبثاً لا طائل من ورائه دون أن تكون هناك حركة ذهنية موازية وحركة سياسية واعية ذات رؤى واهداف وغايات فالانتصار في الحرب لن يجعلنا نصل الى نتيجة لصالحنا ولكن بالحساب المنطقي لصالح العدو المضمر وليس الظاهر- اسرائيل وأمريكا – فهو يهدف إلى تبديد القوة البشرية المناهضة له , ولذلك يمكن البناء على حركة الصمود الاسطورية وتوظيفها في السيطرة على مقاليد المستقبل والتحكم بمساراته وهي تحفظ لنا قوتنا البشرية من الفناء الذي يريده المستعمر , لذلك فالتفاوض أصبح ضرورة تفضي بنا للخروج الآمن من دوامة الصراع الداخلي لنتمكن من مواجهة العدو الحقيقي الذي يستخدمنا كأدوات لبلوغ غاياته ومآربه .
لابد أن تنشط حركة المصالحة الوطنية اليوم قبل الغد في ظل ما نشهده اليوم من تفكك في أدوات العدو الظاهر وهم عملاء التحالف الذين أشهروا السلاح في وجوه بعضهم بعضا وخاضوا صراعا مريرا نتج عنه فرض السيطرة على عدن وأبين فهناك فرص يمكن النفاذ من خلالها لتحويل مسار الأحداث الى المسار الذي يخدم اليمن في عمومه ويجعل منها رقما صعبا ليس من السهل القفز على تطلعاته .
لقد بات العدو في أسوأ حالاته منذ بدء العدوان فهو في رمقه الأخير وحتى ننتصر في معركتنا لابد لنا من توظيف كل الفرص التي تتاح اليوم ولابد من تفعيل الدور الاعلامي والثقافي حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد اللحظة وصناعة المستقبل .