• عند إعلان الوحدة عام 1990م غفل القائمون على صناعة الحدث حينها عن البعد الثقافي ركونا إلى تراكمه، وكان اشتغالهم كل اشتغالهم على البعد السياسي، ولم تكن النتيجة حينها إلا حرب صيف 1994م. وبعد “7 يوليو 1994م” تكرر ذات المنهج وذات الخطأ فلم تكن النتيجة سوى ما شهده الوطن من تنافر وحروب بدءا من حرب صعدة مران في 2004م ومروراً بتنامي الشعور الغاضب عند شعب الجنوب وتشكل الحراك في 2007م وانتهاءً بالغضب الشعبي الذي تفجر في مدار عام 2011م.
كما أن حالة الانتقال التي حاولت تشكيل نفسها في مخرجات الحوار الوطني وقعت في ذات الدائرة المغلقة التي يدور فيها هذا الوطن منذ مطلع ستينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة التي نشهد تفاصيل تموجها في سماء المشهد السياسي.
عقود من الزمان تمضي من حين الوصول إلى حالة الاستقرار من عمر الوحدة الوطنية دون أن يحدث أي تجديد في بنية المؤسسة الثقافية حتى تستطيع أن تواكب الحدث الوحدوي وحالة الانتقال التي تتسارع في إيقاع العصر وفي بنية المجتمع ونسيجه العام وفي التطور التقني، وكان لذلك أثر غير محمود فالعلاقة بين المثقف والسياسي هي علاقة جدلية فعلاقة المثقف بالسياسي هي علاقة احتياج وعلاقة السياسي بالمثقف هي علاقة ضرورة، فالتطور لا يتكامل إلا به وذلك من خلال إدراكه الواعي لمصيره ودوره المستقبلي ولواقعه وأبعاده المتعددة ومن خلال قدرته على التفكيك وإعادة البناء والصياغة وبما يحقق انزياح مجتمعه وفاعليته فيه، فالواقع الذي تغيب أو تتعطل فيه معظم أشكال سيادة القانون أو الديمقراطية الحقة أو المساواة أو الحرية أو المواطنة لا يعدو عن كونه مجتمعا مشوهاً لا يكاد يتجاوز دوائر الامتثال والطاعة وثقافة الاستهلاك والتبعية، وأمامه يبرز دور المثقف وهو دور تاريخي لا يقوم على تبرير الوضع القائم بل على ممارسة النقد لما هو كائن التزاما لما سوف يكون وبالوسائط المتاحة وعبر كل أشكال الثقافة التنويرية التقدمية في الآداب والفنون .
وفي ظني أن أمام المثقف الوطني في الراهن ثلاث قضايا تتلخص في التالي:
1- الوقوف أمام الماضي ومساءلة مصادره المعرفية والثقافية ذلك أن الماضي يعيق نظام الطاقة والقدرة على التجديد.
2- مساءلة الحاضر البشري الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفقد أُثره وإنتاجه وطبيعته الاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل الخلق والابتكار ضمن حدوده النسبية لا المطلقة ومن خلال مكونه ومن خلال منظومته التي هي عليها وإعادة الترتيب والصياغة.
3- الوقوف أمام أسئلة المستقبل وخلق إمكانية التحكم به عبر أدوات ومناهج العلم والتخطيط لا الفوضى والارتجالية التي نعاني منها في المظاهر الحياتية العامة.
فوجود المثقف ضرورة في حياة السياسي، ذلك أن الثقافة والفن من الأهمية بالمكان الذي يترتب عليهما حدوث التطور والنماء والتوازن النفسي للأفراد والمجتمعات باعتبارهما – أي الثقافة والفن- بدائل أو حياة مركزة يستغرق الإنسان ذاته فيها، يقول أرنست فيشر:
(إن الفن لازم للإنسان حتى يفهم العالم ويغيره وهو لازم أيضا بسبب هذا السحر الكامن فيه).
ويقول بريخت: ” إن النظرة الجمالية السائدة في مجتمع يحكمه الصراع تتطلب أن يكون الأثر المباشر للعمل الفني هو اخفاء الفروق الاجتماعية بين المتفرجين بحيث تنشأ منهم جماعة لا تنقسم إلى طبقات وإنما تكون وحدة إنسانية شاملة.”
ومن هنا يمكن القول إن حاجتنا إلى الفن – والفن هو إحدى دوائر التطور عند هيغل- تبدو أكثر إلحاحاً وأكثر لزوماً، فالصراع ترك فروقا اجتماعية وتمايزاً طبقياً وسياسياً ولا يمكننا ونحن نمر بمرحلة انتقالية أن نجتاز تلك العقبات إلا بالفن بحيث نستطيع الوصول إلى وحدة وطنية ووحدة إنسانية مشتركة.
فالكيانات التي تمايزت في الإطار الوطني بعد عام 2011م تريد أن تتحدث عن شيء أكثر من مجرد “أنا” , شيء خارجي وهو مع ذلك جوهري بالنسبة إليها فهي تريد أن تحوي العالم وتجعله ملك يديها, ومثل ذلك التطلع والتشوق يمكن احتواؤه والسيطرة على أبعاده النفسية والوجدانية والثقافية من خلال الفن الذي يربط تلك الـ(أنا ) بالكيان المشترك للناس وبذلك نتمكن من جعل فرديتها اجتماعية وربما إنسانية, فالفن هو الأداة اللازمة لإ تمام الاندماج بين الكيانات المتمايزة والمتنافرة والآخر المختلف معها وربما الآخر الذي يحترب معها فهو يمثل قدرة الإنسان غير المحدودة على الالتقاء بالمختلف وعلى تبادل الرأي والتجربة معه.
فالإنسان بالضرورة يريد أن يكون أكثر اكتمالاً, فهو لا يكتفي بالحالة الانعزالية بل يسعى إلى الخروج من جزئيته الفردية إلى كلية يرجوها ويتطلبها, فهو يحلم بعالم أكثر عدلاً وأقرب إلى العقل والمنطق.
وحتى نستطيع ونحن على أعتاب مرحلة جديدة أن نرسم خارطة ثقافية -وتلك مهمة غير سهلة – لا بد من التجديد وتجاوز اخطاء الماضي فالعشوائية لا يمكنها إلا إعادة إنتاج ذات الصراع, والتجديد لا يتم إلا من خلال إعادة البناء وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها الذي يرتبط بالتطور المادي الحضاري لمجتمعاتنا بما يحفظ هوية الأمكنة.
فالتنافر في البنية العمرانية الذي حدث في الحواضر الجنوبية بعد الوحدة مثلاً ترك بعداً اغترابياً عند الإنسان وهو ما نجد التعبير عنه في مضمون العبارة (الاحتلال اليمني), وتلك العبارة يتحمل وزرها السياسي الذي مال إلى التغطرس والانفراد فلم يكن جهده إلا ذلك التنافر الثقافي والسياسي في النسيج الوطني.
وليس ذلك إلا مثالاً واحداً لغياب البعد الثقافي ولعلنا قد أدركنا أثره في واقع التموج السياسي.