أجد نفسي مصطفاً مع البعض الذي يرى في المناسبات محطة للمراجعة وجلد الذات، ترميماً للمتصدع، وسداً للثغرات، وفتحاً لنافذة تستشرف المستقبل، لأن الماضي أصبح تاريخاً، والحاضر يفرض شروطاً علينا، والمستقبل هو الأمل والنتيجة التي يمكن أن نصل إليها من خلال المقدمات التي يضعها الحاضر الذي نحن فيه ونصنع تفاعلاته.
وقد أصبح من الضرورة القول – وقد تكرر معنا كثيراً- أن التنظيم والتحليل والانتقال من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، وإعادة تعريف الأشياء ومراجعة النظم وتحديثها، والاستمرار في تأسيس قيم اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة، من متطلبات الحاضر الذي نحن فيه والذي تصنع مقدماته المستقبل، باعتبار المستقبل نتيجة للمقدمات التي يصنعها الحاضر، ولذلك فالاحتفال الحقيقي الذي يجب الاهتمام به – إلى جانب التظاهرات السياسية والجماهيرية باعتبارها ضرورات تفرضها اللحظة السياسية – هو التقييم الحقيقي للتجربة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتفاعل مع الزمن، وإحداث الانتقال الحقيقي في البنية التنظيمية إلى مميزات الزمن الجديد، إذ أن الاستغراق في ذات البنية بكل ترهلاتها ونتوءاتها ووظائفها التي فرضتها الظروف الموضوعية التاريخية في المراحل والتحولات التاريخية المختلفة التي مرَّ بها الوطن خلال العقود التي مضت أصبح دوراناً في تَيْه الدائرة المغلقة الذي لن يفضي إلى شيء، ولذلك يكون التحليل للظواهر التي تنشأ وإعادة التنظيم وتفعيل دور القدرات الذهنية النقدية والإبداعية والابتكارية من الخصائص التي تفرضها اللحظة الزمنية التي نحن فيها، فالقضية الوطنية لم تعد ترفاً ذهنياً، ولا هي حالة عابرة والتفاعل مع الزمن الجديد يتطلب شروطاً جديدة غير تلك التي كان عليها الحال في الماضي .
وإذا كان الوطن شهد حركة التحولات التاريخية في المراحل السابقة بكل تجلياتها وملامحها وبكل انكساراتها ونكوصها، فهو المعني بالتحليل والتقييم في مرحلة التحولات والتأسيس لقيم الانتقال الجديدة بعد موجة العنف التي شهدناها وعشنا تفاصيلها المرّة ولا يزال الزمن يكشر عن نابه من خلال ما نشهده من حالات التآمر الاقليمي والدولي على مقدرات اليمن وأمنها واستقرارها.
والاستعداد لقيادة المرحلة الجديدة لا يكون بنفس المفردات والأدوات التي تم استخدامها في المرحلة التاريخية التي مضت، بل لا بد من التفاعل مع الزمن الجديد الذي فرضته حركة التطورات في المجتمع، والتفاعل مع الزمن الجديد يبدأ من الوعي به، والوعي بالزمن الجديد يفرض انتقالاً في الوظائف والبنى التنظيمية وتجديداً وتأطيراً وتحديثاً، ومثل ذلك لا يمكن معالجة مظاهره إلاّ بالاشتغال الواعي، والاستراتيجيات الوطنية التي تعي حركة الزمن وقوانين التاريخ وضوابطه، وتدرك تمام الإدراك أهمية البعد القيمي والاخلاقي في التأسيس لعدالة الانتقال، وفي السياق نفسه تدرك حساسيات التداخل في المصالح , وتعي جوهرية المعرفة في حسن القيادة لإحداث التوازن المطلوب , وبما يكفل قدراً كافياً من الاستقرار النفسي والثقافي والاجتماعي، ولن يتحقق ذلك طالما والمجتمع الذي يستجيب للحالة الانفعالية المؤقتة هو الذي يفرض شروطه، وأعني بذلك ما يشهده الواقع من اختلال في البناء التنظيمي والثقافي دون وعي أو إدراك لأثر ذلك على الحاضر والمستقبل بعد زوال المؤثر، فالحالة الانفعالية التي حكمت لا بد لها من الخضوع لحركة الواقع وحركة الانتقال .
وحين نتحدث عن تأسيس قيم جديدة فنحن بالضرورة نتحدث عن أهمية التنظيم، فالتنظيم يحمل في مضمونه عدالة الانتقال، وعدالة الانتقال في معناها العام أو الخاص تحدُّ من ظواهر الصراع والتفكيك وتحافظ على الهوية الجزئية أو الكلية للوطن، كما أن شروط القيادة للمرحلة الجديدة تتطلب تأسيساً جديداً لقيم جديدة.
فمشروع بناء الدولة الذي نشتغل عليه اليوم لا بد أن يستوعب ضرورات المرحلة , وضرورات التأسيس لقيم جديدة ليكون مناراً للمستقبل , تقل عند أعتابه حركة الصراع , وتغيب بين أوراقه وحفيفه أنات المظلومين .
لا يمكن القفز على الظاهرة الثقافية الحضارية لليمن , ولا يمكننا الخروج من عباءة الموروث الحضاري لأن هويتنا تتشكل به ومن خلاله , ولذلك كانت الدعوة واضحة لتأصيل فكرة الهوية , ومثل ذلك يقودنا الى إحداث حركة تتناغم مع التشريع العرفي حتى نعيد ترتيب نسق العلاقة بين الذات وواقعها ونحدث القدر الكافي من التناغم كما نسهم في التخفيف من حدة الصراع .
اليمن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة وهي بالغة التعقيد والصعوبة ولا تشبه أية مراحل مرت في تاريخها , وهي إما أن تحدث انتقالا واضحا وجليا يؤسس لمراحل أكثر تفاعلا وحيوية , وإما أن تؤسس لمراحل تعمل على تهيئة المناخات اللازمة لتكرار التاريخ في صورة هزلية بعد أن مرت مرحلته المأساوية في صورة العدوان وبشاعة ما أحدثه من تدمير وفساد في الأرض وفي النسل .
نحن معنيون اليوم بالإنصات والتأمل وتقبل الآراء وبالقراءة والتحليل والتقييم لنصل إلى جوهر المشكل الحضاري الذي نحن فيه حتى نتمكن من فض إشكالاته والتحكم في مساراته من خلال فرض مجموعة من الشروط الموضوعية في الحاضر التي سيكون لها أثرها الإيجابي في المستقبل .
الانتقال الى عصر /السريحي ج6